روي الأندلسي في كتابه الكبير, عند تأريخه لحوادث العقد الأخير, قبل انصرام زمان, السلطان ابن عبلكان, أن الجهل والأمية تفشيا بصورة كبيرة, وسادت الخزعبلات بين أبناء العشيرة, حتي بات عقل الإنسان أخف من عقل الحيوان, فتجمع العربان, أمام قصر السلطان, يشتكون ازدهار الغباوة والجهالة, وازدياد الخيانات والعمالة, فأمر الحاكم الخائف المهدد, بإحضار وزيره المحتشد, وصرخ فيه صرخة مكلوم, ماذا ستفعل يا مشئوم.. دبرني يا وزير الشوم. فرسم المحتشد ابتسامة صفراء, علي سحنته الشوهاء, وارتدي قناع الدهاء, مدعيا الذكاء, وهمس في أذن الحاكم الملهوف, المسكون بالخوف: لا تبتئس يا مولانا سوف تشوف.
هنالك سارع المحتشد المأفون, إلي توءم روحه الملعون, القرد ميمون, يستعين بحكمته, ويستنهض همته, فصرخ فيه الشمبانزي الخبير, مقلدا صوت الحمير, وقال للمحتشد نصيحة عجب: انشر يا هذا بينهم الكذب, فأنت بالأكاذيب تصبح سيد القوم, وبالهلس والفضائيات تحرمهم من النوم, اقلب لهم ـ يا محتشد ـ حقائق الأشياء, وأقنعهم بأن السماء أرض, والأرض سماء, وأغرقهم في الرشاوي وفي الباطل, وسيد عليهم كل تافه عاطل, وإياك يا لئيم, وتوظيف العليم, وولي كل خال من المواهب, في أعلي المناصب, وامنح الطماعين, جوائز الدولة التقديرية والنياشين. وهكذا تحوز علي كامل الولاء, عندما توظف العاجزين الأغبياء.
وعندئذ استدعي المحتشد الفسدان, صديقه البهلوان, الأراجوز أبو عجين, ذاك الذي سمعته كالطين, فأجلسه علي عرش الفنانين, فوضع بنفسه كلمات الأغاني والألحان, وأمسك بالصولجان, وأشرف علي كل اللجان, ليختار أفلام المهرجانات, ويعين من يشاء من الراقصات, فصارت لأبي عجين صولات وجولات, في تشكيل وجدان الصبيان والبنات.
وإن هي إلا ساعات, حتي تخلص المحتشد من كل الكفاءات, وأتي بأنصاف المتعلمين, وسلمهم الموازين, وأحضر كل المتهتهين, وعينهم مذيعين, ثم جاء بالنصابين, وألبسهم عباءة الدين, ونادي علي كل محتال كذاب, فجعله من كبار الكتاب.
فما انتصف النهار, إلا وانقشع الغبار, واستيقظ ابن عبلكان, علي صرخات الرعيان: الحقنا يا حامي الديار, يا أيها السلطان الجبار, لقد أصبحنا يا عظيم الشيم, في ذيل الأمم, وتحولنا بسبب الفساد, إلي أحط العباد, وأسوأ البلاد.
فدعا السلطان إليه الوزير المحتشد علي عجل, فجاء وذيله بين قائميه وهرول, ووقف بين يدي الحاكم يبسمل ويحوقل, فنظر إليه ابن عبلكان شر نظرة, أطارت من رأسه السكرة قبل الفكرة, وصرخ فيه صرخة كالرعد: ماذا فعلت بمملكتي يا وغد؟ فتعثر المأفون وتلعثم, وبلغة مضطربة تكلم: أنا يا مولانا عبد نعمتك, ولاعق جزمتك, وما أردت إلا خدمتك, فقال السلطان الغاضب, بصوت لاهب: تخدمني, بأن تضيع ملكي؟ هذه والله نهاية كل حاكم عتويل, يأمن لنصيحة العويل الهزيل. وأمر السلطان قادة جيشه, بأخذ المحتشد وحبسه. |