تشهد مصر منذ بداية هذا العام
أحداثا وتداعيات خطيرة جعلت كل المصريين الحريصين على هذا الوطن يشعرون بقلق بالغ
وخوف كبير مما يحمله المستقبل.
لقد توليت مقاليد الحكم فى مصر منذ ثلاثة عقود وقبل ذلك كنت مشاركا ومسئولا
بحكم منصبك كنائب لرئيس الجمهورية، وبعد مرور حوالي أربعة عقود من الحكم المطلق ما الذي تغير في مصر ؟
·
عندما توليت مقاليد الأمور كانت مصر تشهد احتقانا دينيا
وطائفيا تمثل في العديد من أحداث العنف الطائفي لم تستطع المواجهات الأمنية
والبوليسية أن تسيطر عليه وأدت هذه الأحداث في نهاية الأمر إلى حادث المنصة الشهير
واغتيال الرئيس السادات. الآن وبعد ثلاثة عقود ما الذي تغير؟ لقد استمرت الأحداث
الطائفية خلال الثلاثين عاما الماضية متخذة صورا وأشكالا متعددة تتصاعد أحيانا إلى
حد المواجهات المسلحة العنيفة وتنتشر فى كل الأحيان داخل الفضاء الثقافي
والاجتماعي المصري حتى وصلت الأمور الى حادث كنيسة الإسكندرية الأخير، والتبريرات
التى تتسم بقدر كبير من محدودية الرؤية والتفكير معا بان الحادث إرهابي وليس
طائفيا لا تغير من حقيقة الأمور شيئا لأن الإرهاب ليس موضوعا أو قضية فى حد ذاته
لكنه شكل وأداة ليس أكثر وسواء كان الإرهاب نتاج محلي أو قادما من خارج الحدود أو
الاثنين معا فهو فى التحليل النهائي ليس أكثر من شكل أسلوب أو أداة للفعل أما القضية
الأساسية فهى قضية الاحتقان الديني والطائفي التى لم تواجه أسبابها طوال أكثر من
ثلاثة عقود حتى تفاقمت ووصلت الى ما نحن فيه الآن.
·
عندما توليت مقاليد الحكم كانت مصر تشهد احتقانا
سياسيا وتوترا حادا وصل الى إعتقال كل رموز وشخصيات العمل الوطني العام من كل
التيارات والانتماءات السياسية وحدث قبل أيام معدودة من حادث اغتيال السادات وبدلا
من ان يقوم النظام بالانفتاح على كل الاتجاهات والكف عن سياسة الاستفراد بكل شئ
واستقصاء الآخرين، اذا به فى عناد خطير يختار الطريق المعاكس والخاطئ تماما وهو إغلاق
كل القنوات الديموقراطية التى تسمح بالمشاركة الفعلية فى تحديد مستقبل مصر بين
الأمم ومكانة شعبها بين شعوب العالم والنتيجة شهدناها جميعا. الآن وبعد ثلاثة عقود
من الاحتقان السياسي المأسوي عام 1981 ما الذي تغير؟ لا يختلف اثنان على ان مصر
تشهد حاليا احتقانا سياسيا حادا وخطيرا وصل الى درجة حرجة فى انتخابات مجلس الشعب
الأخيرة ومن قبلها انتخابات مجلس الشورى. ولأن العالم كله شهد ماتم بالصوت والصورة
ووسائل التوثيق المختلفة فلا مجال هنا لإعادة التذكير بكل ما نشر وأذيع. النتيجة
النهائية هى أن مصر تشهد حاليا احتقانا سياسيا لم تشهده بهذه الصورة من قبل، وما
يحدث حاليا على هذا المستوى قد تجاوز كثيرا ما شهدته مصر من احتقان قبل ثلاثين
عاما والذي أدي مع عوامل و احتقانات أحرى الى ما حدث فى اكتو بر 1981.
·
عندما توليت مقاليد الحكم كانت مصر تعيش احتقانا
اجتماعيا وتوترات شديدة بين فئات وشرائح المجتمع سببته سياسات واختيارات اقتصادية تتسم بالعشوائية والتحيز الطبقي
والاجتماعي الفاضح. كانت تلك بدايات ما عرف بسياسات الانفتاح الاقتصادي والانتقال
من نظام الى نظام آخر مضاد ومعاكس له تماما, ولأن هذه السياسات لم تكن قائمة على
أسس وحقائق بنيوية فى الواقع المصري فلقد تمثلت مظاهرها المعروفة للجميع فيما عرف
وقتها بقضايا الفساد التى بدأت حكمك بها والتي شملت محاكمات لكثيرين ممن كانوا فى
موقع النفوذ والقرار ومن بينهم شقيق الرئيس الراحل نفسه. لكن بدلا من انتهاج
سياسات اقتصادية واجتماعية ترتكز على التفكير العلمي وعلى المصالح الفعلية لكل
فئات الشعب المصري اذا بسياسات الثلاثين عاما الماضية تسير فى نفس طريق السياسات
السابقة بل أنها أوغلت فى المضي بعيدا على كافة المستويات مستخدمة كل الأساليب
وأدوات الحكم والسيطرة التى تحكمت فيها
مجموعات قليلة احتلت مواقع القرار السياسي والاقتصادي كما استولت على مواقع
التشريع وسن القوانين. الآن وبعد ثلاثين عاما من هذه السياسات كيف وصلت الأحوال فى
مصر؟ يكفي ان تجمع الكم الهائل من التقارير والكتابات التى تصدر عن الأوضاع
الاجتماعية فى مصر لكي ندرك بشاعة ومدى خطورة الأوضاع التي وصل اليها المجتمع
المصري. التقارير والدراسات الخاصة بالاقتصاد والاجتماع فى مصر كثيرة محلية ودولية
موثقة بالأرقام ودراسات الواقع فيما يتعلق بالبطالة التي تفاقمت والفقر الذي انتشر
والأمراض الخطيرة من التهابات الكبد الوبائي والفشل الكلوي والسرطانات التى لم
تعرفها مصر من قبل ثم هذه المظاهر المرضية الخطير المتمثلة فى صعود شرائح اجتماعية
ظهرت على السطح تمتلك ثروات غير عقلانية وتمتلك سلطات غير شرعية تتصرف بموجبها فى
أصول مصر وثروات مصر ورأس المال المصري الذي تعود ملكيته الى كل أفراد الشعب
المصري, هذه السياسات المتراكمة خلال ثلاثين عاما أدت الى النتائج التى نراها الآن
من تصاعد خطير للاحتقان الاجتماعي وانتشار أفقي ورأسي للتوترات ومظاهر الغضب
والاحتجاج الاجتماعي الممتد فى كل مكان والذي يقترب بدوره من نقطة الانفجار.
هذه هى أوضاع مصر بعد ثلاثين عاما
من توليك الحكم، هذه هى صورة مصر فى الداخل الواقعي وفى العالم أيضا لأنك لا تستطيع
أن تخفي الحقائق مهما أوتيت من وسائل التزييف الإعلامي والتلاعب بالعقول. الآن هل
يمكن لنا ان نفكر في كيفية الخروج من كل هذا المأزق؟ هل يمكن لنا ان نضع بعض
الشموع ربما تساهم فى إزالة الغشاوات التى تراكمت حتى حجبت كل رؤية حكيمة وأعاقت
كل تفكير عقلاني رشيد؟ يردد حراس النظام من الكتبة والمستفيدين ونهازي الفرص على
حساب آلام الشعب المصري بأن لا حلول أخرى وان لا أحد يقدم برامج أو يقترح حلول
وهذا جزء من الكذب الخبيث كما يعكس عقلية لاترى الحلول الا داخل حدود دوائر الفساد
وفى أفضل الأحوال داخل الممكن القائم وليس الممكن الكلي لطاقات وإمكانيات الشعب
المصري, الآن تمر مصر بهذه الأوقات العصيبة الحرجة والوجودية أيضا لان كثير من الاختيارات
التى لابد من حسمها الآن ستحدد الى أين تسير مصر، إلى سكة السلامة والأمان أم سكة
المجهول الرهيب الذي يحمل كل الاحتمالات؟ وكيف ستواجه مصر التحديات التى تواجها الآن وفى
المستقبل القريب وليس البعيد. الذين يراهنون على رؤية لجنة السياسات والحزب الوطني
وقدرته على مواجهة المشاكل والتحديات الحالية والقادمة مخطئون. الذين يراهنون على
البطل المخلص لينقذ مصر من المخاطر الجاثمة والقادمة أيضا مخطئون. لا توجد ولن
توجد أية قوة فى مصر تستطيع أن تحل المشاكل وتواجه التحديات والمخاطر بمفردها حتى
لو اقترضنا صدق النبات والحرص فعلا على مصالح مصر وهو ما لانراه محققا في الواقع
الفعلي ذلك إذا تغاضينا عن شواهد ومظاهر
كثيرة تقول عكس ذلك تماما. ان أي تفكير عقلاني مجرد لايمكن ان يصل إلى غير ذلك، إذن
ما العمل؟ ما هو الحل؟
حتى لا تحبط القوى والتجمعات
السياسية التي تبحث بصدق عن المخرج والحل لما وصلت اليه الأوضاع فى مصر، وحتى لا
يحبط النظام والقائمين على إدارة شئون مصر وبعد ان أكدت وتؤكد الاحداث وكل الاحتمالات
أيضا انه لا حلول لمشاكل مصر لدى الحزب ولجنة سياساته وقوى الأمن التي تنفذ الأوامر
والتعليمات، وقبل ان تتجاوز الأحداث القادمة كل الحسابات وتخرج عن السيطرة لنواجه
جميعا انفجارات تأتي من كل اتجاه وليس فقط أحداث الفتن الطائفية وأساليب الإرهاب
من الداخل أو الخارج أو كلاهما معا، قبل ان يحدث ذلك كله تعالوا نتلمس مخرجا
واقعيا عقلانيا، لان تعقيدات الأمور بلغت حدا أصبحت فيه كل التصورات والأفكار
الصحيحة بل والعقلانية غير كافية وحدها للخروج من الأزمة بل لابد من اقتراحات عملية تتلمس الخروج من هذا النفق المظلم، وردا على أصحاب الواقعية
الانتهازية المستفيدين من الأوضاع الحالية علينا أن نتحلى بواقعية عقلانية متجردة
من مصالح المناصب والامتيازات وأنانية الخوف من فقدان ما هو قائم على حساب التضحية
بكل مستقبل مصر,
بما ان الأوضاع قج وصلت إلى هذه
النقطة الحرجة، لا يعقل بداية أن نستمر فى نفس الطريق الذي أدى الى ما نحن فيه
الآن. ولا يعقل أن نبدأ دورة جديدة فى السير على نفس السياسات وبنفس الأشخاص الذين
أوصلوا مصر الى ما هى عليه، في كل قواعد وطرق التفكير العقلاني ان من ساهم وشارك
في خلق مشكلة ما لايمكن له ان يكون جزءا من حلها، هذا تفكير منطقي علمي عقلاني
لاصلة له بالسياسة أو الايدولوجيا. الآن
نحاول الإجابة على سؤال ما العمل وما هو الحل فيما يلي :
أولا – بما انه لأحل ولا مخرج لأزمات
مصر الراهنة وتجنب الأخطار القادمة بإمكانيات قوة سياسية واحدة أو اتجاه سياسي
وحيد مهما كانت إمكانياته الفعلية ،وليس التلفزيونية، فإن تجاوز الوضع الحالي
والاستعداد للمستقبل يتمثل فى حشد لكل القوى الحية فى المجتمع المصري وهذا يتطلب
من الناحية العملية :
1- حل
الحكومة الحالية وتشكيل حكومة ائتلاف وطني تضم الكوادر الفكرية والفنية والعلمية
من كل التيارات المصرية بما فيها من يختارهم الحزب الوطني من عقلائه وحكمائه من
غير الشخصيات التي تولت رسم السياسات وتولي مناصب القرار خلال العقود الماضية، ذلك اذا كان هناك بالفعل عقلاء يستطيعون ان ينحازوا الى مضالح مصر قبل خضوعهم لاي التزام حزبي ضيق الأفق، وليس في اتخاذ مثل هذا القرار من قبل الرئيس أي حرج أو شبهة ضغط حيث ان من المنطقي
جدا ان يتم تشكيل حكومة جديدة لمواجهة مرحلة جديدة يجمع الكل الآن على ضرورة ان
تبدأ على الفور وعدم إعطاء الفرصة مرة أخرى للالتفاف على الأحداث والعودة الى
الاستمرار فى السياسات السابقة.
2- بعد ما شاب
الانتخابات الأخيرة من عوار وصدور إحكام قضائية نهائية واجبة التنفيذ فإن اللحظة
الراهنة تتطلب أكثر من أى وقت مضى وحفاظا على تماسك المجتمع المصري ذاته بكل
اطيافه الفكرية والسياسية أن يتم حل مجلسي الشعب والشورى احتراما لأحكام القضاء من
ناحية وممارسة عملية لشعار الدولة المدنية التي ترتكز أو ما ترتكز على احترام
القانون وأحكام القضاء ذلك ان أي حديث عن الدولة المدنية يصبح عبثا لا معنى له اذا
لم تحترم أحكام القضاء خصوصا من جانب من يدير أجهزة ومؤسسات الدولة .
3- تشكيل
جمعية عمومية تضم ممثلين عن كل الاتجاهات الفكرية والسياسية والكفاءات العلمية
والشخصيات العامة التى يجمع علي نزاهتها وعقلانيتها أغلبية المشاركين في هذا المشروع لإنقاذ وحماية مصر تكون مهمتها
الاساسية :
-
البدء فى وضع دستور جديد لمصر يتناسب مع التطورات
الاجتماعية والسياسية التى شهدها المجتمع المصري خلال النصف قرن الماضي
-
إعداد قوانين وإجراءات تنظيم ممارسة الحريات
السياسية والقواعد المنظمة للتصويت والترشيح والانتخاب للمواطنين المصريين دون
تفرقة او تحيز على ان تطرح هذه القواعد والقوانين للاستفتاء العام مع الدستور
الجديد الذي سيشكل العقد الاجتماعي الجديد والمرجعية الدستورية فى مصر بعد إقراره.
-
تحدد فترة انتقالية يتم فيها الإعداد للانتقال السلمي
للسلطة فى مصر وفقا للدستور الجديد على ان يتم إجراء الانتخابات للبرلمان الجديد
وكذلك انتخاب رئيس الجمهورية وفقا للدستور الجديد والقوانين والقواعد الجديدة التى
تزيل كافة المعوقات أمام الترشيح والانتخاب للمواطنين المصريين فى كافة مستويات
الممارسة السياسية والعمل العام على ان لاتقل هذه الفترة عن ستة شهور ولا تزيد عن
ثمانية عشر شهرا لكي تستعد كافة القوى السياسية والمجتمعية ونعيد بناء هياكلها
وإعداد برامجها ورؤاها لمستقبل العمل السياسي والنشاط العام فى مصر.
-
نظرا لطبيعة مركزية السلطة فى مصر حتى الآن وتجنبا
لأية إشكاليات دستورية أو قانونية يضمن فى التعديلات القادمة ان يظل الرئيس الحالي
فى منصبه لحين الانتهاء من كافة التعديلات والاستفتاء على الدستور الجديد والتى
ستتم كحد أقصى خلال ثمانية عشر شهرا من الآن تتم خلالها عملية انتقال السلطة فى
مصر بشكل سلمي وبمشاركة كافة القوى السياسية والفاعليات الاجتماعية والفكرية
المصرية.
لقد حاولت فى هذه الرسالة طرح رؤية
وحلا عمليا عقلانيا للخروج من الأزمة التى تواجهها مصر حاليا بشكل يضمن ان الدفاع
عن مصر هو مسئولية كل المصريين وليس مسألة أمنية فقط . أما الذين لا يفكرون الا
بعقلية أمنية فقط عليهم ان ينظروا الى العالم من حولنا ليس فقط فى المنطقة العربية
وما يحدث فيها أمام اعيننا ولكن ايضا ما حدث فى دول أوروبية كانت تتمتع بأجهزة
أمنية حديدية لم تستطع ان تصمد أمام إرادات التغيير عندما تأتي لحظة فى التاريخ
تحمل منطقها الخاص وتصبح فيها كل العوامل حاضرة للتفاعل ومواجهة الأخطار.
تفاصيل كثيرة وقضايا أكثر قد تكون
فى ذهن كل من يحمل هموم مصر ويقلق لمستقبل مصر وانها للحظة استثنائية تظهر فيها
الحقائق وتهرب كل الأكاذيب على كل من يقلق على مصر وعلى كل من يهمه فعلا وليس قولا
فقط أمان وسلام ومستقبل مصر ان يرتفع عن ويتجاوز كل حسابات شخصية أو مكاسب وامتيازات
وقتية لن تصمد اذا ما انفجر بركان الغضب الهائل الكامن تحت السطح. لن يحل الاحتقان
الطائفي أو السياسي أو الاجتماعي المتداخل بحكم الطبيعة كل على حدة مهما كانت
عبقرية القوانين والإجراءات الوقتية الناشئة عن رد الفعل، احتقان مصر ومشاكل مصر
لن تحل إلا برؤية جديدة لمستقبل مصر يحكمها عقد إجتماعي جديد ينظم العلاقة بين
الجميع.
حقا،
فى وقت المحن والشدائد تظهر معادن الرجال أما أولئك الذين لا يفكرون إلا فى
مصالحهم وأنانيتهم حتى لو احترقت مصر فلن
يكون لهم مكان عندما تحين لحظة الاختيار ولقد حانت لحظة الاختيار لإنقاذ مصر.
درويش الحلوجي
مواطن تعيش مصر بداخله حتى وان كان
لا يعيش داخل مصر