في استظهار صاحب الدولة على قومه
اعلم أن صاحب الدولة إنما يتم أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه وبهم يقارع الخوارج على دولته ومنهم من يقلد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهمو في سائر مهماته. هذا ما دام الطور الأول للدولة كما قلناه. فإذا جاء الطور الثاني وظهر الإستبداد عنهم والإنفراد بالمجد ودافعهم عنه بالراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم ويتولاهم دونه فيكونون أقرب إليه من سائرهم وأخص به قرباً واصطناعاً وأولى إيثاراً وجاهاً لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم والرتبة التي ألفوها في مشاركتهم. فيستخلصهم صاحب الدولة حينئذ ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه ويقلدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختص به لنفسه وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون. وذلك حينئذ مؤذن باهتضام الدولة وعلامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبية التي كان بناء الغلب عليها ومرض قلوب أهل الدولة حينئذ من الامتهان وعداوة السلطان فيضطغنون عليه ويتربصون به الدوائر ويعود وبال ذلك على الدولة ولا يطمع في برئها من هذا الداء لأن ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها. واعتبر ذلك في دولة بني أمية كيف كانوا إنما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص وعبيد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف والمهلب بن أبي صفرة وخالد بن عبد الله القسري وابن هبيرة وموسى بن نصير وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ونصر بن سيار وأمثالهم من رجالات العرب. وكذا صدر من دولة بني العباس كان الاستظهار فيها أيضاً برجالات العرب فلما صارت الدولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التطاول للولايات وصارت الوزارة للعجم والصنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر ثم بني بويه وموالي الترك مثل بغا ووصيف وأتامش وباكناك وإبن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدولة لغير من مهدها والعز لغير من اجتلبه. سنة الله في عباده والله تعالى أعلم