KHAN ELKHALILI

lundi, février 20, 2006

vendredi, février 10, 2006

ARCHEOLOGIE DE LA MEMOIRE تضاريس الذاكرة

قارئ
Un Lecteur
Le Caire 1923
Collection Lenhert & Landrock
***
ذاكرة أولاد حارتنا
بين "الفراغ" و<الثقوب السوداء>1
عندما نتذكر حلما ما فإننا نستدعى صورا يمكن ان تربط بينها علاقة تداع متسلسل، كما انها تخضع لمنطق خاص. لكن هذه الصور لاتخضع للمرجعيات الخاصة بالحيز المكاني لحياة اليقظة، انها صور غير مرتبطة << بمجمل الافكار التى تشكل مفهومنا عن العالم>>. من ناحية اخرى، عندما نعبئ ذكريات تأتي الى الوعي متناثرة ومشتتة، فإننا نقوم بتنظيمها وتنسيقها تبعا لذكريات أخرى، إننا ننظمها وفقا لمجمل أنواع المواقف والحالات المرجعية التى حصلنا عليها من البيئة المحيطة بنا. من هنا فإن عمل الذاكرة لاينحصر فى عملية يقوم بها الوعي الذاتي بمفرده. حتى يمكن للذاكرة ان تقوم بعملها، فإن ذلك <<يتطلب وسطا طبيعيا وإجتماعيا منظما، متناسقا يمكن ان نعرف فى كل لحظة شكله العام وإتجاهاته الكبرى>> . عندما نقوم بعمليات تفكيك وإعادة تركيب، عبر نشاط عقلاني مكثف، فإن الصور التى تحضرنا أو نستدعيها تقوم بتنظيم خبرتنا الذاتية الخاصة مع خبرات وتجارب اعضاء الجماعة التى ننتمي اليها. من هنا فإننا نتلقى من ذلك كله تأكيدا على ذكرياتنا الذاتية. فى بعض الحالات، تؤمن الشهادة المباشرة التى يقدمها شهود آخرين هذه الصلاحية. فى اغلب الاحيان، تطلق المرجعيات المشتركة داخل الجماعة وتوجه كما تنشط عملنا الخاص المتعلق بالذاكرة، حتى تلك الذاكرة ذات الصبغة الحميمية جدا. << كل ذاكرة، مهما كانت ذاتية وشخصية ، حتى تلك التى تتعلق بأحداث نحن فقط الذين شهدناها، وكذلك تلك المتعلقة بالأفكار والمشاعر غير المعبر عنها، هي ذاكرة ذات علاقة مع مجموعة من التعريفات التى يمتلكها كثيرون غيرنا، علاقة مع اشخاص، مع جماعات، مع اماكن، مع تواريخ، مع كلمات وأشكال من اللغة، وكذلك مع طرق للفهم ومع
أفكار، أي مع كل الحياة المادية والأخلاقية للمجتمعات التى نشكلها أو التى نشكل جزءا منها>> 1
تتكون <<الأطر الجمعية>> للذاكرة من كل هذه العناصر التى تنشط وتنظم الذاكرة الفردية والتى تسمح بدقة متزايدة << بتحديد ذلك
الذي لم يكن إلا مجرد شكل أو إطار فارغ لحدث قديم>>: << مواقف مرجعية فى الزمان والمكان، تعريفات تاريخية وجغرافية
تراجم لسير وحياة شخصيات، مواقف سياسية، معطيات من الخبرة العامة وطريقة شائعة فى النظر الى الاشياء>1
***
من وجهة النظر السوسيولوجية فإن الذاكرة الفردية يتم تكوينها عبر التركيب الاجتماعي <<للأطر الجمعية للذاكرة>>، لكن عملية التذكر ذاتها هي عمل فردي يتطلب تفكيرا وإعمالا للفكر كما يستلزم تقييما وحكما. هذا العمل الفردي يتفاعل مع المعطيات التى يمده بها المجتمع. كل فرد يستخلص جزءا مختلفا من <<التركيب المشترك>> الذي وضعته الذاكرة الجمعية تحت تصرفه حتى يعبئ ويستدعي ذكرياته الخاصة. الذاكرة الفردية فى نهاية الامر هى وجهة نظر عن الذاكرة الجمعية، وتغير وجهة النظر هذه غالبا من الموقع الذي تحتله كما يغير هذا الموقع فى اغلب الاحيان من العلاقات التى كان يحتفظ بها مع مواقع أخرى. 2
تتطور الذاكرات المشتركة التى تعتمد الواحدة منها على الاخرى تبعا للاستعدادات الفردية التى يمكن لأعضاء الجماعة ان يحققوها. تتداخل كل من الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية وتتغلغل كل منها مع الاخرى: تتغذى الذاكرة الفردية على الذاكرة الجمعية بإتباع طريقها الخاص؛ كما تغلف الذاكرة الجمعية الذاكرة الفردية دون ان تختلط بها ولا بمجموع الذاكرات الفردية المجمعة

***

الأطر الاجتماعية للذاكرة ليست شبكة جامدة من التعريفات والصور تحوي وتضم الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية. 2
الأطر الاجتماعية للذاكرة عبارة عن ابنية ديناميكية تعدل وتضبط نفسها بشكل مستمر وفقا للمعطيات الجديدة للحاضر. مثل هذا الضبط يستلزم عمليات فرز : عندما لاتتوافق الذاكرة ولا تتمتع بأي ملائمة مع الحياة الراهنة للجماعة، تتلاشى وتختفى كليا أو جزئيا. تنسى الجماعة البشرية كل ذلك الذي لايفيدها ولاينفعها فى شئ. هذه المرونة هى التى تسمح كذلك لأطر الذاكرة ان تمارس وظيفتها الأصلية فى الزمن الحاضر: بالقدر الذى تقابل فيه عالما من الرموز والمعاني مطابقا للمرجعيات الراهنة للجماعة، تلجأ هذه الأطر الى إعادة خلق مستمرة للذاكرة وفقا للمعطيات الجديدة التى يقدمها الحاضر. الحاضر لايقطر كل الماضي خلفه: الحاضر ينتج الماضي. هذه القوة الأصلية للأطر الجمعية للذاكرة تعزو شرعيتها الى الذاكرة الفردية : الفرد الذى يتذكر ما لايتذكره الآخرون مثله مثل الفرد الذى يرى مالايراه الآخرون. المجتمع الذى يغضب يلتزم الصمت ويجبر على الصمت، انه ينسى الأسماء التى حوله والتى لم يعد ينطق بها أحد. 2
***
فى المجتمعات الحديثة حيث تتميز المجالات الدينية، الاقتصادية، العائلية، السياسية، الخ. وتعمل كل منها بشكل مستقل مولدة بذلك اشكالا خاصة من العلاقات الاجتماعية، نرى ان الذاكرة تتشتت وتتجزأ. ينتج تقسيم العمل تباينا وعدم تشابه لذاكرات وظيفية متناثرة متعددة لا رابط بينها، ذاكرات بلا جذور فى الماضي البعيد، ذاكرات غير مترسخة غير قادرة على خدمة وحدة الكل الاجتماعي. فى مثل هذا الوضع نجد امامنا تساؤل دوركاهيم: كيف يمكن الحفاظ على مجموعة من المجتمعات التى تتواجد معا؟ مجتمعات تتنوع فيها الانتماءات الفردية بحيث تقلب الأطر الخاصة بذاكرة موحدة تخص المجتمع ككل، الأطر التى تمثل مصدر الهوية الجمعية. 1
يجسد هذا التساؤل بشكل دقيق حالة المجتمعات التى تتعرض لتناقضات داخلية وتحديات خارجية تهدد هويتها الجمعية، تلعب مجموعات المصالح الخاصة دورا خطيرا فى هذا الصدد والمثال على ذلك هو ماتشهده المجتمعات العربية حاليا من تناقضات داخلية بين جماعات المصالح المهيمنة وبين الغالبية العظمى للفئات والطبقات الاجتماعية الاخرى من ناحية، ومن تحديات خارجية تدفع بإتجاه تفكيك الروابط الجمعية والعوامل المشتركة التى تشكل لحمة البنيان الاجتماعي ككل من ناحية اخرى.
*1
موريس هالبواش يحلل سوسيولوجيا الذاكرة بشكل مفصل فى الفصل السادس من كتاب "سوسيولوجيا الدين " والذي يتناول فيه موضوع الذين والذاكرة1
***
الذاكرة
بين الفراغ والثقوب السوداء
3
***

حارة نجيب محفوظ

Collection Lenhert & Landrock

***

Photos

Darwish El Halwagy

لقطات من الحي الذي دارت فيه احداث ملحمة اولاد حارتنا

عدسة درويش الحلوجي

لإعادة نشر أي من الصور لابد من الاشارة الى المصدر

عدسة درويش الحلوجي

***

فى انتظار عرفة 2

من فتوة حارتنا؟ مضى الناس يتساءلون عنه مذ رقد سعد الله فى قبره. وأخذ كل فريق يزكي رجله. فآل جبل قالوا إن يوسف أقوى فتوات الحارة وأوثقهم نسبا بالجبلاوي. وقال آل رفاعة إنهم حي أنبل من عرفته الحارة فى تاريخها، الرجل الذي دفنه الجبلاوي فى بيته وبيديه. وقال آل قاسم انهم هم الذين لم يستغلوا النصر لصالح حيهم ولكن لصالح الجميع فكانت الحارة على عهد رجلهم وحدة لا تتجزأ يسودها العدل والأخوة. وكالعادة بدأت الخلافات همسا فى الغرز، ثم تطايرت فى الجو فثار الغبار وتحفزت النفوس لشر مهلك. ولم يعد فتوة يسير بمفرده، وإذا سهر فى قهوة أو غرزة أحاط به الاتباع مدججين بالنبابيت. وراح كل شاعر يدعو بالرباب الى فتوة حيه. وتجهم أصحاب الدكاكين والباعة وكدر التشاؤم وجوههم. وتناسى الناس موت الجبلاوي ومقتل سعد الله بما ركبهم من هم وتوجس للخوف، وحق لأم نبوية بياعة النابت ان تقول بأعلى صوت: 1

... قطعت العيشة ويابخت من كان الموت نصيبه

وذات مساء ترامى صوت من فوق سطح بحي جبل وهو يصيح: 1

يا أولاد حارتنا، اسمعوا واجعلوا العقل حكما بيننا وبينكم، حي جبل اقدم أحياء الحارة، وجبل أول رجالها الكرام، فلا مذلة لأحد اذا ارتضيتم يوسف فتوة لحارتكم

فتعالت أصوات الاستهزاء من حيي رفاعة وقاسم، مصحوبة بقذائف السب واللعن، ومالبث ان تجمع الصغار امام الربوع وراحوا ينشدون: 1

يايوسف ياوش القمله مين قلك تعمل دي العمله

collection Lenhert & Landrock

عدسة درويش الحلوجي

واشتدت القلوب غلظة وسوادا. ولم يؤجل وقوع الكارثة الا ان التناحر كان يقوم بين ثلاث قوى متضادة معا، وانه كان لابد من ان يتحد حيان أو ان ينسحب حي مختارا. ووقعت احداث بعيدا عن الحارة ذاتها. فقد التقى بائعان فى بيت القاضي، أحدهما من جبل والاخر من قاسم، فاشتبكا في معركة حامية فقد فيها القاسمي اسنانه والجبلي عينا. وفي حمام السلطان نشبت معركة اخرى بين نسوة من جبل ورفاعة وقاسم وهن عرايا فى المغطس فانغرست الاظافر فى الخدود والأسنان فى السواعد والبطون والأيادي فى الضفائر، وتطايرت الاكواز وأحجار الحك والياف التدليك وقطع الصابون، وانجلت المعركة عن اغماء امرأتين واجهاض ثالثة وبض أجساد لاحصر لها بالدم. وعند ظهيرة اليوم نفسه، عقب عودة المتعاركات تباعا الى الحارة، استؤنفت المعركة من جديد من فوق الاسطح، واستعمل فيها الطوب والسباب الفاحش، وسرعان ما امتلأت سماء الحارة بالقذائف وارتفع صراخها الى السحاب. واذا برسول من قبل الناظر يتسلل خفية الى يوسف فتوة جبل ويدعوه الى مقابلة الناظر. وحرص الفتوة على ان يقابل الناظر دون ان يدري به أحد. واستقبله الناظر بلطف وطلب اليه ان يعمل على تهدئة الخواطر فى حيه وبخاصة ان ذلك الحي هو التالي موقعه لبيت الناظر. وعندما صافحه مودعا قال له إنه يتمنى ان يقابله فى المرة الآتية وهو فتوة الحارة كلها! وخرج الرجل من بيت الناظر ثملا بتأييده الصريح له، وآمن بأن الفتونة باتت فى متناول يديه. وما لبث ان ألزم حيه بالنظام. وتهامس الناس فى حيه بما يدخره الغد لهم من سيادة وجاه. وتسربت من حيهم الأنباء الى بقية الحارة فهاجت الخواطر. ولم تمض أيام بعد ذلك حتى تقابل عجاج والسنطوري سرا فاتفقا فيما بينهما على القضاء على يوسف من ناحية، ثم على الاقتراع على الفتونة بعد النصر من ناحية أخرى. وعند فجر اليوم التالى تجمع الرجال من آل قاسم ورفاعة فهاجموا حي جبل، فدارت معركة شديدة، لكن يوسف وكثرة من اتباعه قتلوا وهرب الباقون، وأذعن آل جبل للقوة يائسين. وحدد العصر لاجراء القرعة المتفق عليها. وعند العصر هرع القاسمية والرفاعية رجالا ونساء الى رأس الحارة امام البيت الكبير، وامتدت جموعهم جنوبا حتى بيت الناظر وشمالا حتى بيت الفتوة الذي سيصبح ملكا للفائز بالقرعة. وجاء السنطوري وعصابته كما جاء عجاج وعصابته فتبادلوا تحيات السلام والتعاهد. وتعانق عجاج والسنطوري امام الجميع ، وقال عجاج بصوت سمعه جميع المتطلعين: 1

انا وانت أخوان، وسنبقى أخوين فى جميع الأحوال

فقال السنطوري بحماس: 1

على الدوام ياسيد الجدعان ! 1

وقف الحيان متقابلين، يفصل بينهما فراغ أمام مدخل البيت الكبير. وجاء رجلان _ أحدهما من قاسم والآخر من رفاعة_ بمقطف ملئ بالقراطيس فوضعاه وسط الفراغ ثم تقهقر كل الى قومه. وأعلن على الجميع ان القادوم هو رمز عجاج وان الساطور هو رمز السنطوري، وانه وضعت نماذج مصغرة منها فى القراطيس مناصفة. وجيء بغلام ليأخذ_وهو معصوب العينين_ من المقطف قرطاسا. مد الغلام يده فى صمت متوتر ثم استردها بقرطاس. فتحه وهو مايزال معصوب العينين وتناول ما فيه ورفع به يده فهتف القاسمية: 1

الساطور..الساطور

مد السنطوري الى عجاج يده فتناولها الآخر وشد عليها باسما. وتعالى هتاف حار: 1

يعيش السنطوري فتوة حارتنا

collection Lenhert & Landrock

ومن صفوف الرفاعية تقدم رجل الى السنطوري مفتوح الذرعين، ففتح له السنطوري ذراعيه ليعانقه، لكن الرجل الآخر طعنه بسكين فى قلبه بمنتهى القوة والسرعة. سقط السنطوري على وجهه قتيلا. سيطر الذهول لحظة ثم انفجر الصياح والوعيد والغضب. وتلاقى الحيان فى معركة دامية قاسية. لكن لم يكن يوجد فى القاسمية من يستطيع الوقوف امام عجاج، فسرعان ما نفذت الى قلوبهم الهزيمة، وسقط من سقط، وجرى من جرى، ولم يجيء المساء حتى كانت الفتونة قد تقررت لعجاج. وبينا ضج حي قاسم بالعويل، انطلقت الزغاريد من حي رفاعة، وراحوا يرقصون فى الطريق حول فتوتهم_ فتوة الحارة_ عجاج. وإذا بصوت يرتفع فوق الزغاريد صائحا: 1

هس ، اسمعوا ياغنم ! 1

تطلعوا الى مصدر الصوت فرأوا يونس بواب الناظر يسير بين يدي الناظر نفسه الذي جعل يتقدم فى هالة من خدمه. مضى عجاج نحو موكب الناظر وهو يقول: 1

محسوبك عجاج فتوة الحارة وخادمكم ! 1

حدجه الناظر بنظرة ازدراء وقال فى الصمت الرهيب الذى غشي الحارة جميعا: 1

ياعجاج، لا أريد في الحارة فتوة ولا فتونة ! 1

ذهل رجال رفاعة، وماتت على شفاههم بسمات الظفر والطرب، وتساءل عجاج فى دهشة: 1

ماذا يقصد حضرة الناظر ؟! 1

فقال الناظر بقوة ووضوح: 1

لانريد فتونة ولا فتوة، دعوا الحارة تعيش فى أمان

فهتف عجاج ساخرا: 1

أمان!؟ 1

فسدد الناظر نحوه نظرة قاسية لكن الآخر تساءل فى تحد: 1

ومنذا يحميك أنت؟! 1

عدسة درويش الحلوجي

وإذا بالقوارير تنهال من ايدي الخدم على عجاج وأعوانه، ودوي الانفجارات يزلزل الجدران، وشظايا الزجاج والرمال تصيب الوجوه والاطراف وتفجر الدماء. وانقض الفزع على النفوس كما تنقض الحدادي على الفراخ، فطاشت العقول وسابت المفاصل. وسقط عجاج وأعوانه فأجهز الخدم عليهم. وتعالى الصوات فى حي رفاعة، وزغاريد الشماته فى جبل وقاسم. وتوسط يونس الحارة داعيا الجميع الى الانصات حتى ساد الصمت، ثم صاح قائلا: 1

يا أولاد حارتنا، جاءكم السعد والأمان بفضل حضرة الناظر أطال الله بقاءه، فلا فتوة يذلكم او يغتال أموالكم بعد اليوم

وارتفعت اصوات الهتاف الى السماء

***

صورة من الحي

عدسة درويش الحلوجي

jeudi, février 09, 2006

أولاد حارتنا فى انتظار عرفة

LES FILS DE NOTRE QUARTIER
EN ATENDANT ARAFA
WAITING ARAFA
***

درب قرمز

الكتاب

DARB QERMEZ

AL KOTAB

***

الشيخ عثمان

وجه من وجوه الحي

عرفة
المتأمل لحال حارتنا لا يصدق ما تقول الرباب فى القهاوي. من جبل ومن رفاعة ومن قاسم؟! وأين الآثار التى تدل عليهم خارج نطاق القهوات؟ أما العين فلا ترى إلا حارة غارقة فى الظلمات وربابا تتغنى بالأحلام. وكيف آل بنا الأمر الى هذه الحال؟ أين قاسم والحارة الواحدة والوقف المبذول لخير الجميع؟ وماذا جاء بهذا الناظر الجشع وهؤلاء الفتوات المجانين؟ ستسمع حول الجوزة الدائرة فى الغرز، بين الحسرات والضحكات، أن صادق خلف قاسم على النظارة فسار سيرته. وأن قوما رأوا ان حسن أحق منه بالنظارة لقرابته من قاسم ولأنه الرجل الذي قتل الفتوات. وانهم حرضوا حسن على رفع نبوته الذي لايقاوم فأبى ان يعود بالحارة الى عهد الفتونة. لكن أناس فى آل جبل وآل رفاعة يجاهرون بما كانوا يضمرون. ولما رحل صادق عن الدنيا أسفرت الرغبات المكبوته عن وجهها الشائه ونظراتها العدوانية. واستيقظت النبابيت بعد رقاد، وسال الدم فى كل حي على حدة، وبين كل حي وآخر، حتى قتل الناظر نفسه فى إحدى المعارك. وافلت الزمام ووئد الأمن والسلام فلم يجد الناس بدا من إعادة آخر ذرية الناظر رفعت الى النظارة التى يقاتل الطامعون عليها. هكذا عاد الناظر قدري الى النظارة. وانقلبت الأحياء الى عصبيتها القديمة، وإذا كل حي يسيطر عليه فتوة، ثم دارت المعارك على فتونة الحارة حتى فاز بها سعد الله، فاحتل بيت الفتوة وصار الناظر الأول، واستأثر يوسف بآل جبل، وعجاج بآل رفاعة، والسنطوري بآل قاسم. ووزع الناظر الريع بالأمانة اول الأمر فاستمرت حركة التعمير والتجديد. وسرعان ما لعب الطمع بقلب الناظر، والفتوات من بعده كما كان المتوقع، فارتدوا الى النظام القديم، أي ان الناظر يستأثر بنصف الريع ويوزع نصفه الآخر على الفتوات الأربعة الذين استأثروا به من دون المستحقين، ولم يقفوا عند ذلك بل جاوزوه بكل وقاحة الى فرض الاتاوات على اتباعهم المساكين. وتعطلت حركة الانشاء حتى توقف البناء فى بيوت لم يشيد منها الا نصفها أو ربعها. وبدا وكأن شيئا من القديم لم يتغير الا ان حي الجرابيع أصبح حي آل قاسم، يرأسه فتوة كالفتوات الآخرين، وتقوم على جانبيه الربوع مكان الاكواخ والخرائب. أما أهل الحارة فانقلبوا الى ما كانوا عليه فى الزمان الأسود، بلا كرامة ولاسيادة، تنهكهم الفاقه وتتهددهم النبابيت وتنهال عليهم الصفعات. وانتشرت القذارة والذباب والقمل، وكثر المتسولون والمشعوذون وذوو العاهات. ولم يعد جبل ورفاعة وقاسم الا اسماء، واغاني ينشدها شعراء المقاهي المسطولون. وتباهى كل فريق برجله الذي لم يبق منه شئ وتنافسوا فى ذلك الى حد الشجار والعراك. وذاعت شعارات المساطيل، فيقول أحدهم وهو داخل الى الغرزة: (مافيها فائدة) يعني الدنيا لا الغرزة. ويقول آخر: (هناك نهاية واحدة هي الموت، فلنمت بيد الله خير من ان نموت بنبوت فتوة، وأحسن ما نفعل سكرة أو تحشيشة!). وكانوا يتغنون بمواويل حزينة ينسجونها من خيوط الخيبة والفقر والذل، أو يترنمون بأغنيات فاحشة داعرة يقذفونها فى آذان النساء والرجال الباحثين عن السلوى والعزاء ولو في خرابة مظلمة. وعندما يشتد الكرب بأحدهم يقول: (المكتوب مكتوب، لا جبل أجدى ولا رفاعة ولا قاسم، حظنا من الدنيا الذباب ومن الآخرة التراب) . ومن عجب ان تبقى حارتنا بعد ذلك كله الأثيرة بين الحواري، يشير اليها الرجل من جيراننا ويقول فى اكبار: (حارة الجبلاوي) ، ونقبع في أركانها ساهمين واجمين كأننا بتنا قانعين بالذكريات العزيزة الماضية، او اننا نجتر الاصغاء الى هاتف في أعماقنا يهمس بصوت خافت : (ليس من المستحيل ان يقع فى الغد ما وقع بالأمس، فتتحقق مرة أخرى أحلام الرباب وتختفي من دنيانا الظلمات) 1
449
***