عن النخب فى المجتمع المصري
طبيعتها وآليات إنتاجها
محاولة فهم طبيعة وآليات إنتاج وتدوير النخب فى المجتمعات العربية تستحق دراسات معمقة فى اكثر من مجال من مجالات البحث السوسيولوجي والسياسي والثقافي بالاضافة الى مجالات اخرى متعددة، بدون ذلك لايمكن فهم هذا الموضوع. لكن، حتى لو اقتصرنا على تناول هذا الموضوع من زاوية علم الإجتماع فقط، فإن تناول بنية وآليات انتاج النخب على مستوى المجتمعات العربية يستحق فى حد ذاته اكثر من فريق بحثي حتى يمكن ان نصل الى نتائج يمكن وصفها بالعلمية او الموضوعية. من هنا سنقتصر فى هذه المعالجة على تناول ظاهرة النخب فى المجتمع المصري بإعتباره من اكثر المجتمعات العربية وضوحا بهذا الخصوص. كذلك فإن تناولنا هذا سيقتصر على امثلة تطبيقية محددة تم إختيارها من ثلاث مجالات يمكن ان تكون نموذجا لفهم بقية المجالات الاخرى التى لاتتناولها هذه المعالجة، كما يمكن بقدر معين من التعميم ان تقدم صورة لعمليات إنتاج النخب على مستوى المجتمع المصري .1
بداية، لابد من تعريف هذا المصطلح <<النخب>>ثم محاولة فهم كيفية إنتاج وتدوير النخب فى المجتمع المصري وفقا لهذا التعريف. 1
ثمة تعريفان يمكن ان نعتبرهما بمثابة التعريفان السائدان فى مجال علم اجتماع النخب أو سوسيولوجيا النخب : 1
التعريف الاول يحدد النخبة بانها الأفراد الذين يعتبرون الأفضل او الاكثر تميزا داخل مجموعة إجتماعية محددة
التعريف الآخر يحدد النخبة بانها مجموعة الأفراد الذين يحتلون مواقع الصدارة او الصف الاول داخل جماعة اجتماعية معينة دون إشارة الى ضرورة تمتعهم بالكفاءة أو الامتياز
فى كلا التعريفين، نحن إزاء فئة محدودة نسبيا من الأفراد يتميزون بشكل ما عن أولئك الذين لايعتبرون جزءا من النخبة والذين يشكلون لهذه النخبة ما يعرف <<بالجمهور>>1
إذا حاولنا تطبيق اي من هذين التعريفين على ما يمكن ان نطلق عليه النخب المصرية تواجهنا على الفور الإشكالية التالية : 1
المرجعية أو القياس الذي يمكن به تحديد <<الجمهور>> و <<النخبة>> غير محددة ان لم تكن غائبة تماما
المعايير التى نستخدمها لتحديد التركيب الإجتماعي /الفئوي و المهني لم تعد صالحة للإستخدام بسبب الفساد والتشوه الذي ألم بهذه المعايير خلال العقود الماضية من ناحية، ثم بسبب ما يمكن ان نسميه <<التركيب المشوه>> سوسيولوجيا للفئة او المجموعة المجتمعية محل الدراسة و البحث ذلك ان ماشهده المجتمع المصري من حراك إجتماعي مشوه خلال العقود الثلاث الأخيرة على وجه التحديد يجعل من تطبيق هذه المفاهيم مسألة تتسم بشكل كبير من التعقيد خصوصا فى ظل غياب دراسات وإحصائيات خاصة بالتركيب الإجتماعي/المهني والفئوي يمكن الوثوق فيها علميا.1
لكن، بالرغم من ذلك، وحتى نتجاوز هذا العائق العملياتي، سنتناول مباشرة ثلاث أمثلة تطبيقية تتعلق بثلاث مجالات يمكن من خلالها ان نوضح الصورة بشكل أفضل فيما يتعلق بتركيب وآليات إنتاج النخب فى كل منها : 1
المجال الاكاديمي <<الجامعات ومراكز البحوث>>1
المجال السياسي <<السلطة التنفيدية والسلطة التشريعية>> 1
مجال المجتمع المدني <<أي ما اصبح يعرف بهذا الاسم ونعنى به المنظمات والجمعيات غير الحكومية والهيئات النقابية الخ >>1
من المفترض ان المجال الذي يضم العاملين فى البحث العلمي والجامعات يخضع لقواعد ومعايير تم تحديدها والاتفاق
عليها وقبولها من قبل العاملين فى هذا المجال، وهذه المرجعية والمعايير تم الاتفاق عليها ايضا من قبل الجماعة العلمية على المستوى العالمي ومن هنا فهى تتمتع بصفة عالمية . هذه المعايير والقواعد تتمثل فى محتوى ومستوى المناهج العلمية التى تدرس فى هذه الجامعات، مستوى ومصداقية البحوث العلمية التى يقوم بها اعضاء هذه المراكز البحثية وهذه الجامعات والتى يتم التحقق منها ومراجعتها وفقا لمعايير قبول النشر العلمي فى الدوريات والمجلات العلمية المتخصصة فى كل فرع من فروع هذا المجال، بالاضافة الى مجموعة من القواعد التنظيمية والإجرائية التى يتم على اساسها إختيار قيادات هذه المراكز والجامعات من أساتذة ورؤساء اقسام وعمداء كليات وصولا الى مناصب رؤساء الجامعات ومديري مراكز البحوث الخ. 1
اذا تأملنا ما يتعلق بهذا المجال فى المجتمع المصري، أي كيفية تكوين النخب الاكاديمية وآلية الوصول الى مواقع القيادة
او الصدارة فى هذا المجال الهام الذي يعتبر من المجالات التى تخضع لقواعد وإجراءات صارمة لابد ان تتوفر لكل من ينضم اليه، سنجد ما يلي : 1
الجماعة العلمية التى تضم أولئك الذين يمارسون العمل الاكاديمي فى الجامعات ومراكز البحوث لم تعد تخضع منذ أكثر من ثلاث عقود للمعايير والقواعد المتفق عيها كشرط للإنضمام اليها وتولى المراكز القيادية فى هذا المجال، وهى معايير وقواعد كانت معروفة ومطبقة من قبل. لقد اصبح الإنتماء الى هذا المجال يتم عبر وسائل ووفقا لعوامل لا علاقة لها بالمجال نفسه، عوامل وأساليب خارجية تأتي فى مقدمتها توظيف العلاقات الإجتماعية والانتماء أو الولاء السياسي وصلة هذا الفرد او ذاك بذوي النفوذ او القرابة العائلية لمن يقوم بعملية الاختيار أو التعيين فى المواقع المختلفة. النتيجة هى ما نشاهده جميعا ويكاد لايختلف عليه اثنان من تدهور وتراجع المستوى العام لهذه الجماعة وانتشار معايير لاعلاقة لها بمعايير العمل فى هذا المجال مما ادي الى استفحال الفساد وانهيار الانتاج العلمي وخروج الجامعات المصرية من قوائم الجامعات المعترف بها عالميا من حيث المستوى ومصداقية الاداء والنشر العلمي
اذا كانت هذه الجماعة تمثل نظريا نخبة المجتمع بالنظر الى مجمل الفئات الاجتماعية المهنية الاخرى، إلا ان هذه الجماعة تخضع نظريا لمعايير التعريف الخاص بالنخبة داخليا، بمعنى ان هناك من يتميزون نسبيا بأداء جيد وإنتاج متميز مقارنة ببقية العاملين أو جمهور العاملين فى هذا المجال وهو ما يستوجب الحديث نظريا عن نخبة الاكاديميين ونخبة الباحثين أي أولئك الذين لايزالون رغم كل العوائق والفساد الذي ألم بهذا المجال يحافظون على أداء عقلاني يخضع لقواعد المجال ولو نظريا. اذن نحن هنا إزاء ما يمكن ان يعرف بانه نخبة النخبة، لكن مانشاهده ان هذه النخبة التى لاتزال تقاوم آليات التدهور والفساد والتى يمكن ان تنتمي للتعريف الاول للنخبة أي كونها متميزة فى مجالها من حيث الاداء المهني، نقول ان هذه النخبة مستبعدة بالفعل من مواقع الصدارة والقيادة داخل هذا المجال الذي اصبح يعمل وفقا لمعايير المحسوبية والحراك المشوه والفاسد علميا واجتماعيا والاخذ بمعايير لاتنتمي الى معايير وقواعد العمل وشروط الانتماء الى هذا المجال، معايير خارجية تتمثل فى عضوية هذا الفرد او ذاك فى الحزب الحاكم أو فى هذه اللجنة او تلك القريبة من مراكز النفوذ السياسي بصرف النظر عن مستواه العلمي ومستوى انتاجه وادائه العلمي
حتى لايكون هذا العرض مجرد افتراضات نظرية أو وجهة نظر شخصية، احيل القارئ الى الوقائع الكثيرة جدا التى نشرت فى الصحف والتى كان عدد غير قليل منها محل تحقيقات ادارية وقضائية وكلها تدور حول وقائع محددة من السرقات العلمية، شراء الشهادات والدرجات العلمية، التلاعب بدرجات وتقديرات نتائج الامتحانات لصالح الاقارب او مقابل رشاوي مالية ومصالح متنوعة، شيوع ظاهرة تعيين أبناء وأقارب المسئولين فى المواقع العلمية دون توفر الشروط اللازمة لذلك، الدور الرئيسي الذي تقوم به الاجهزة الامنية من استبعاد للمتميزين علميا بسبب معتقداتهم السياسية او الفكرية وتعيين أفراد آخرين فى المناصب المختلفة داخل هذا المجال بصرف النظر عن الاخذ بقواعد التفوق او التميز العلمي المتعارف عليه، . يأتي فى مقدمة ذلك كله الطريقة التى يتم بها تعيين رؤساء الجامعات وعمداء الكليات ومديري مراكز البحوث والتى تتم جميعها بقرار سياسي من رئيس الجمهورية وهو ما يعني بالضرورة ضرورة توفر شرط الولاء السياسي او الايديولوجي للنظام القائم بصرف النظر عن الاعتبارات العلمية، والنتيجة ان هذا المجال يشهد تعيين رئيسا لاحدى الجامعات الاجنبية الخاصة التى انتشرت كثيرا حتى اصبح لكل دولة اوروبية جامعة بإسمها بالاضافة بالطبع الى الجامعة الامريكية، هذا المدير ارتبط اسمه باكبر عملية تزوير للإنتخابات البرلمانية التى جرت فى العام السابق والتى لازالت معروضة على القضاء ولم يتم الفصل النهائي فيها حتى الآن، وهو نفسه الذي اعترض ورفض قبول تعيين واحد من أنبل ابناء مصر الذي رحل مبكرا فى شهر يوليو الماضي وهو الدكتور احمد عبد الله ابرز قيادات الحركة الطلابية المصرية خلال سبعينيات القرن الماضي والباحث الملتزم. الامثلة كثيرة لاحصر لها منها فقط على سبيل المثال ان يتولى رئاسة لجنة التعليم والأعمال أى البيزنس عضوا فى لجنة السياسات بالحزب الحاكم وهى اللجنة الموكول اليها تحديد استراتيجية التعليم فى مصر خلال القرن الحالي !! ولم يعرف عن هذا المسئول انه من المتميزين فى البحث العلمي او فى المجال الاكاديمي بصرف النظر عن كونه من المتفتحين فكريا على حقائق العالم المعاصر، ونختم هذه الامثلة بمثال آخر يتعلق بتعيين وكيلا لجامعة القاهرة تخصص بجانب تخصصه الاكاديمي فى مجال الفزياء فى تفرغه للتفسير العلمي للقرآن وإجتهاده عبر مجموعة كبيرة من الكتب والندوات فى تفسير النظريات العلمية الحديثة باستخدام النصوص الدينية، لكن القائمة طويلة جدا بحيث لايمكن الاستطراد فيها حتى لانخرج عن الهدف المحدد لهذا العرض
النتيجة التى نخرج بها من العرض السابق والذي يتعلق بمجال يعتبر من أهم المجالات التى تحدد مدى جدية وصلابة الأسس التى يبنى عليها المجتمع، هى الحالة التى وصل المجال الاكاديمي ومجال البحث العلمي فى مصر، ولا يمكن ان ننهي هذ العرض دون ان نشير الى النتيجة التى نخرج بها من هذا التحليل وهى: 1
يكفي ان تضع الانسان الغير مناسب فى موقع القرار والمسئولية حتى ينهار كل شئ من داخله دون حاجة الى اي جهد من عدو او خصم خارجي !! ما حدث للجامعات والبحث العلمي فى مصر يعطي صورة واضحة لما حدث فى مجال التعليم بشكل عام من تدهور فى المستوى وانهيار فى الأداء وفساد مدمر لم يحاسب المسئولين عنه حتى الآن !! 1
أذا كانت هذه هى الصورة فيما يتعلق بنخبة النخب فى المجتمع المصري فماذا عن النخب فى المجالات الاخرى؟ كيف تتشكل وما هى آليات صعودها والمعايير التى تحكم حراكها وتسمح لها بتولى المناصب والمواقع القيادية التى تحتلها؟
هذا ما سنتعرض له قريبا فيما يتعلق بنخب المجال السياسي ونخب المجتمع المدني.1
الى اللقاء
تحديث:1
بعد نشر النص السابق وفى سياق متابعة الجديد الذي يؤكد التحليل السابق ننشر فيما يلي نص خبر اوردته جريدة الأهرام بتاريخ 6 نوفمبر ونترك التعليق والتأكد من صحة الخبر والتفاصيل الاخرى التى لم ينشرها الاهرام لزوار خان الخليلي .1
الأثنين 6 نوفمبر 2006
أستاذ أون لاين.. فقط بسبعة جنيهات للدقيقة!1
علي طريقة برامج المسابقات التليفزيونية, التي تطلب من المشاهد الاتصال برقم0900 للمشاركة في المسابقة, والحصول علي جوائز, تغزو أسوار الجامعة ـ خاصة جامعة القاهرة ـ إعلانات تدعو الطلاب إلي الاتصال برقم تليفوني يصلهم بالأساتذة للحصول علي المعلومات والنصائح العلمية والدروس الخصوصية. وعلي الرغم من أن سعر مكالمات0900 لا يتجاوز جنيها أو جنيها ونصف الجنيه للدقيقة, فإن مكالمات أستاذ أون لاين ـ وهذا اسم المشروع ـ يبلغ سبعة جنيهات للدقيقة!.وإذا رغب الطالب في الحصول علي محاضرة كاملة ـ مدتها ساعتان ـ يمكنه التوجه إلي عنوان مدون في الإعلان, أو يصفه له من يرد علي الاتصال التليفوني, وذلك مقابل30 جنيها للمحاضرة الواحدة بحد أدني سبع محاضرات, وبالطبع تختلف التكلفة حسب نوع المادة أو مكانة الأستاذ, إذا كان معيدا, أو مدرسا مساعدا, أو أستاذا.. إلخ!!مندوب الأهرام وجيه الصقار تتبع الظاهرة الجديدة, واكتشف أن وراءها تحالفا بين عدد من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة, وأصحاب بعض المكتبات المحيطة بالحرم الجامعي, التي توسعت في نشاطها, ولم تقتصر علي تصوير المذكرات أو طبعها وبيعها للطلبة, وإنما افتتحت مراكز للدروس الخصوصية في شقق بوسط البلد وميدان التحرير, بجانب استخدام تليفونات للخط الساخن مع الأساتذة, وخصم التكلفة من صاحب التليفون الذي يتصل منه الطالب!