آليات انتاج العنف السياسي الاجتماعي فى مصر
دورة التراكم والانفجار
المتأمل لظواهر العنف السياسي الاجتماعي فى المجتمع المصري خلال الخمسين عاما الماضية يلحظ ان ثمة دورة زمنية تقترب من السنوات الخمس تفصل بين كل انفجار وآخر بدءا من عام 1954 وحتى الآن. مثل هذا التكرار المنتظم يطرح سؤالا منهجيا عن أسباب و آليات انتاج العنف السياسي الاجتماعي فى مصر. لكن قبل ان نعدد الأسباب ونعرض للآليات التى تحكم ظواهر العنف هذه، سنقدم بداية عرضا سريعا لهذه الظواهر حتى نذكر القارئ بها وبالتالي يصبح مشاركا فى التفكير وليس مجرد متلقيا لوجهة نظر، ذلك ان هذه الظواهر التى نعرض لها لم تعد وجهة نظر انما هى الآن حقائق تاريحية لا يستطيع احد ان ينفيها إلا اذا كان ممن لايقرأون التاريخ. لكن قبل ذلك اشير الى ان العرض التالي يتناول ما يمكن تسميته بظواهر العنف السياسي الاجتماعي الكبرى التى يمتد تأثيرها الى المستوى الوطني ومن هنا فهذا العرض لايشمل مئات بل آلاف ظواهر العنف اليومي المستمر التى يشهدها المجتمع المصري مثله مثل كل المجتمعات التى تشهد ذلك بدرجات مختلفةوفقا لما يتميز به كل منها من تماسك وتجانس ودرجة نمو وتقدم سياسي واجتماعي.
دورة التراكم والانفجار
الفترة الناصرية
يمكننا ان نرصد ثلاث دورات واربع انفجارات للعنف خلال فترة الحكم الناصرى وهي
1954 : أزمة مارس ومذبحة الجامعة وحادث المنشية
أزمة مارس1954 التى وقعت بين اتجاهات مختلفة من الضباط الذين قاموا بحركة الجيش عام 1952 ثم كذلك ما عرف بمذبحة الجامعة المتثملة فى فصل وإبعاد عدد كبير من اساتذة الجامعات الذين تقدموا بوثيقة تطالب بالاصلاح السياسي والديموقراطي ثم محاولة اغتيال جمال عبد الناصر بميدان المنشية بالاسكندرية وما تبعها من اعتقالات واسعة ومحاكمات.
1959 الاعتقالات الواسعة فى صفوف الحركة الشيوعية
بعد دورة زمنية تقترب من الخمس سنوات جاءت حملة الاعتقالات السياسية الواسعة النطاق فى صفوف قوى اليسار وتحديدا بين الشيوعيين عام 1959 وتخللها عمليات تعذيب موثقة أدت الى مصرع شهدي عطية الشافعي والدكتور حداد .
1964: الاعتقالات الواسعة فى صفوف حركة الاخوان
فى عام 1964 وبعد دورة امتدت الى حوالي السنوات الخمس قام النظام الناصري بحملة جديدة من الاعتقالات الواسعة النطاق شملت هذه المرة تنظيمات وقيادات حركة الاخوان المسلمين اعقبها محاكمات سياسية اصدرت احكاما مختلفة من بينها اربعة احكام بالاعدام شملت سيد قطب المرشد العام للحركة
1968: إنتفاضة الطلاب والعمال
فى فبراير عام 1968 وللمرة الاولى منذ قيام نظام يوليو اندلعت مظاهرات واسعة النظاق للطلاب والعمال مطالبة بالاصلاح السياسي والديموقراطية وإنهاء سيطرة الحزب الواحد وهو الاتحاد الاشتراكي والاجهزة الأمنية والسياسية المرتبطة به ومحتجة على الاحكام المخففة التى صدرت بحق ضباط الطيران الذين تحملوا مسئولية رئيسية فى هزيمة يونيو 67 ، تلا ذلك حملة اعتقالات بين قيادات هذه الانتفاضة اعقبها صدور بيان 30 مارس الشهير الذي حاول احتواء مطالب هذه الانتفاضة ولكن لم ينفذ منه اي شئ.
فترة حكم السادات
بعد وفاة عبد الناصر فى سبتمبر 1970 وتولى السادات الحكم، وكما بدأ نظام يوليو ابان فترة الحكم الناصري بمحاكمات سياسية شملت القوى السياسية التى كانت سائدة ومهيمنة على المسرح السياسي فى المجتمع المصري قبل 52، بدأ السادات فترة حكمه بما عرف بتصفية مراكز القوى وهو تعبير استخدم لوصف حملة الاعتقالات التى قام بها السادات لقيادات الحكم نفسه من مسئولي الاتحاد الاشتراكي والاعلام والجيش والمخابرات والداخلية الخ . وبصرف النظر عن الظروف المحتدمة داخليا بسبب استمرار الاحتلال الاسرائيلي فإن دورة التراكم جاءت فى موعدها بعد انتفاضة فبراير 68 بخمس سنوات تقريبا
1972: الحركة الطلابية فى الجامعات
اندلعت الحركة الطلابية خلال عامي 1972 و 1973 رافعة نفس مطالب الاصلاح السياسي والديموقراطي التى لم تنقطع منذ عام 54 بالاضافة الى المطالب المتعلقة بالقضية الوطنية وتحرير الاراضي المحتلة. تكرر نفس السيناريو الخاص بحملات الاعتقالات التى شملت قيادات الحركة كما تم إعداد قضايا ومحاكمات لهذه القيادات .
: إنتفاضة يناير1977
دورة التراكم والانفجار ظلت وفية لموعدها على الرغم من الانتصار العسكري الذي تم فى حرب اكتوبر ثم فرغ واجهض سياسيا بعد ذلك حيث اندلعت انتفاضة يناير 77 والتى شملت محافظات مصر من اسوان الى اقصى الشمال فى اسكنرية ومطروح. نفس السيناريو يتكرر لكن هذه المرة مع ازدياد فى مستوى العنف والعنف المضاد. عجزت قوات الامن عن السيطرة على الاحداث وتم فرض حظر التجول ونزل الجيش الى الشوارع وبلغ عدد القتلى وفقا للبيانات الرسمية 177 قتيلا واعقب ذلك نفس السيناريو من المحاكمات لمجموعات سياسية يسارية اتهمت بالتحريض على وقيادة الانتفاضة
.
1981 : إعتقالات سبتمبر وإغتيال السادات
بعد خمس سنوات من التراكم جاء موعد الانفجار فى سبتمبر 1981، بعد ارتفاع حاد فى الاحتقان الداخلي اقبل السادات على اعتقال أكثر من 1500 من السياسيين من كافة الاتجاهات شملت شخصيات ورموزا أساسية لنظام يوليو ذاته بل وشخصيات عملت مع السادات نفسه واعقب ذلك بعدة ايام إغتيال السادات اثناء العرض العسكري فى السادس من اكتوبر 1981 .
فترة حكم مبارك
بدأ الرئيس الحالي فترة حكمه بعد إغتيال السادات بتكرار نفس السيناريو الذي بدأ به كل من عبد الناصر والسادات فترة حكمهما أي بمحاكمات سياسية لشخصيات العهد السابق عليه وسميت هذه المحاكمات بمحاكمات الفساد التى شملت العديد من الشخصيات كان من بينها شقيق السادات ورشاد عثمان


1986 تمرد قوات الامن المركزي
تمرد قوات الامن المركزي 1986 لم يتغير شئ فى آليات دورة التراكم والانفجار، فى الموعد المفترض لها أي بعد خمس سنوات من حملة سبتمبر واغتيال السادات جاء ماعرف بتمرد قوات الامن المركزي فى فبراير 1986 . تمردت فرق متعدد من قوات الامن المكلفة بحفظ النظام ومواجهة الانتفاضات والتحركات الجماهيرية وامتد هذا التمرد الى عدة محافظات فى نفس الوقت. لأن الانفجار حدث فى جهاز الامن ذاته وبالتحديد فى جهاز الامن المركزي المنوط به حفظ الامن ومواجهة الاضطرابات والخروج عن النظام العام، استدعى النظام قوات الجيش التى نزلت الى الشوارع لتشتبك مع قوات الأمن، فرض حظر التجول وسقط ستين قتيلا وفقا للبيانات الرسمية وتم إحالة 1236 من جنود الامن و 31 مدنيا الى محاكم امن الدولة المشكلة وفقا لقانون الطوارئ.
اندلاع موجة العنف المسلح للجماعات الاسلامية سنوات التسعينيات
استكملت دورة التراكم مدتها وجاء موعد الانفجار بعد حوالي خمس سنوات وفقا للآليات التى تحكم هذه الدورة ومع بداية التسعينيات انفجرت موجة العتف المسلح لجماعات الاسلام السياسي التى اسفرت عن سلسلة من المواجهات المسلحة والاغتيالات ومحاولات الاغتيال لشخصيات من كبار رجال الأمن مثل حسن ابو باشا ومفكرين وكتاب مثل فرج فوده ومكرم محمد احمد وسياسيين مثل رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب الخ
حادث الأقصر واستمرار عمليات الاغتيالات 1996/1997
بعد دورة التراكم الجديدة وعلى الرغم من ظهور تغير نوعي فى ظاهرة العنف يتمثل فى تحوله من العنف الانفجاري الدوري الى العنف المنتشر والممتد مع بداية التسعينيات، إلا ان آليات دورة التراكم والانفجار ظلت كما هى لتؤكد صحة هذا الافتراض. وفى موعد يقارب موعد الانفجار المتوقع وفقا لآليات دورة التراكم جاء حادث الاقصر المعروف عام 1997 والإعتداء على الكاتب الكبير نجيب محفوظ. لم يكن حادث الاقصر مجرد استهداف لأفواج السياح من قبل جماعات اسلامية مسلحة تعتنق افكارا دينية متخلفة ومشوهة، بل كان فى نفس الوقت تعبيرا جليا عن استمرار حالة الاحتقان السياسي والاصرار على مواجهة نفس الظواهر بنفس العقلية الامنية دون تحليل او فهم للأسباب والآليات التى تنتج وتعيد انتاج هذه الظواهر
2000 تصاعد حاد فى استخدام العنف والبلطجة السياسية فى الانتخابات
استوفت دورة التراكم مدتها الزمنية لتعود مرة اخرى بعد احداث العنف المسلح التى امتدت حتى منتصف التسعينيات كي يظهر نوع جديد من اشكال العنف الذي شهدته الانتخابات البرلمانية عام 2000 والتى سقط فيها عدد غير قليل من القتلى وسجلت مواجهات عنيفة بين العنف المؤمم أي عنف الدولة المتثمل فى اجهزتها الامنية والعنف المخصخص المتمثل فى عنف التنظيمات والتجمعات السياسية

2005/2006 تصاعد الحراك السياسي وتأكيد ظاهرة البلطجة والمال السياسي
استكملت دورة التراكم الاخيرة مدتها الزمنية لنتوقع الانفجار فى موعده عام 2006 حيث تشهد الحياة السياسية ما اصبح يعرف بالحراك السياسي الذي شمل فئات كثيرة واساسية من قطاعات المجتمع المصري مثل الصحفيين وأساتذة الجامعات والقضاة وحركات مثل كفاية والعديد من الحركات المهنية من أجل التغيير . لكن فى مواجهة ذلك كان هناك اصرار على اتباع نفس الاساليب الامنية فى مواجهة الظواهر السياسية والاجتماعية وهو ما ادى الى ما شهدناه جميعا من احداث عنف وفساد للمال السياسي دخلت قاموس المصطلحات السياسية المصرية واعتمدت تحت اسم البلطجة. مرة اخرى تطرح ظاهرة العنف السياسي الاجتماعي فى المجتمع المصري باشكالها المختلفة سواء البلطجة المباشرة أو استخدام المال السياسي بحدة للنقاش. لقد انحصر العنف بشكل واضح وجلي بين نوعين من العنف بحيث يمكن القول ان الصراع يدور حاليا بين خصخصة العنف من قبل الدولة التى تستخدم جماعات من البلطجية تحت حماية قوات الامن لمواجهة الحركات النشطة المطالبة بالاصلاح والتغيير وبين استخدام نفس جهاز الامن فى مواجهة الحركات الاجتماعية والحراك السياسي المتصاعد بحدة فى المجتمع المصرى.
العرض السابق جزء من الاستنتاجات التى توصلت اليه دراستين جامعتين وسنستكمل بقية النتائج فى الاعداد القادمة
|