KHAN ELKHALILI

mardi, décembre 20, 2005

إهداء
الى الذين حاولوا سبر اغوار عوالم تبدو مجهولة أو محرمة لكنهم اناروا الطريق لمن حاول من بعدهم
الى من نشأوا وعاشوا بين البسطاء وتعلموا الحكمة منهم ليعيدوا تعليمها الى غير البسطاء
أهدي هذه الترجمة

Taha Housein
طه حسين
Saied Eiwais
سيد عويس

Gamal El Ghitani

جمال الغيطاني

سوسيولوجيا الدين

سوسيولوجيا الدين
تأتي ترجمة هذا الكتاب لتلبي حاجة ملحة ومساهمة في الحوار الدائر حاليا حول الإصلاح السياسي الاجتماعي بشكل عام والإصلاح الثقافي الذي يعتبر الدين مكونا رئيسيا له بشكل خاص. لقد ظلت الدراسات المتعلقة بالدين في العالم العربي قصرا على الجامعات والمعاهد الدينية ( الأزهر، القيروان، الزيتونة الخ) التي قامت بدور رئيسي في هذا المجال من المنظور الثيولوجي البحت، لكن الظواهر التي تعرف بالدينية والتي يندرج تحتها الدين والتدين والمقدس لم تحظي بالاهتمام الكافي من الدراسة والبحث في أقسام العلوم الاجتماعية بالجامعات ولا في مراكز البحوث المتخصصة في الدراسات الإنسانية والاجتماعية في العالم العربي. كذلك، فإن هذا الإهمال لم يقتصر على هذا المجال من مجالات العلم الاجتماعي أي "سوسيولوجيا الأديان"، بل نجد نفس الشئ فيما يتعلق بالدراسات الإبستمولوﭽية بشكل عام وإبستمولوﭽيا العلوم بشكل خاص. إذا علمنا إن كل من الدراسات الإبستمولوﭽية الحديثة وكذلك سوسيولوﭽيا الأديان وسوسيولوﭽيا العلوم تعتبر من المجالات البحثية التي نتجت عن الثورة العلمية الحديثة، يمكننا إن نستنتج السبب وراء غياب هذا النوع من الدراسات في العالم العربي، إن الإنتاج العلمي ذاته وتحديدا الأبعاد الابستمولوﭽية والفلسفية للعلم الحديث وتأثيرها على مجالات البحث في العلوم الاجتماعية يكاد يكون منعدما، كما إن برامج ومناهج الدراسة في الجامعات ومراكز البحوث العربية تكاد تخلوا تماما من مثل هذه الدراسات
***
عندما ترتفع دعوات الإصلاح بشكل حاد في مجتمع ما فإن ذلك يعني إن النظام السائد في هذا المجتمع قد وصل إلى درجة كبيرة من العجز عن أداء وظائفه الأساسية ولم يعد قادرا على حل التناقضات الداخلية والتحديات الخارجية التي تواجهه. من مظاهر هذا العجز وكعلامة من علامات الأفول إن يفقد الخطاب المعبر عن النظام كل مصداقيته وقدرته على التأثير حتى بين الشرائح الاجتماعية التي ترتبط مصالحها بسيادة هذا الخطاب و استمرارية الأوضاع القائمة. لكن، عندما يصبح تفشي الفساد وشيوع الخلل في الأداء السمة المميزة على مستوى المجتمع بأسره، هنا يصبح وجود واستمرارية المجتمع ذاته في خطر. في مثل هذه الظروف تستجيب المجتمعات التي تمتلك رصيدا حضاريا وقدرة على مواجهة الأخطار ويتقدم من بين صفوفها مفكرون ومثقفون كبار، تظهر شخصيات تصف الداء وتشير إلى الدواء، وفى مثل هذه الظروف لا يفيد ضجيج البيروقراط وحذاقة التكنوقراط ولا انتهازية المثقفوقراط،. في مثل هذه الظروف يستحيل تحقيق أي حل للتناقضات ولا يمكن مواجهة التحديات بمجرد إجراء تعديلات شكلية هنا أو هناك، عندئذ لابد من تغييرات بنيوية جذرية ولابد من تغيير آليات أداء النظام الاجتماعي السياسي جذريا حفاظا على بقاء واستمرارية المجتمع ذاته. تنبثق المجتمعات الجديدة وتولد من قلب المجتمعات القديمة عبر عمليات الإصلاح والتغيير المستمرة وعبر حلها للتناقضات ونجاحها في مواجهة التحديات، لكن عندما تعجز عن تحقيق ذلك تتعرض منظومة القيم الأساسية التي تشكل دعائم وجود وتماسك المجتمع لخطر التفكك والانهيار الذي يؤدي في النهاية إلى فقدان المجتمع للعناصر الأساسية المكونة لهويته. تواجه المجتمعات العربية هذا الخطر حاليا، وأحد الأسباب وراء ترجمة هذا الكتاب هو محاولة فهم هذه الإشكالية من خلال تحليل مؤسسي علم اجتماع الأديان لموضوع الدين ومكانته في المجتمعات الحديثة
درويش الحلوجي

samedi, décembre 10, 2005

Try to understand حاول ان تفهم

بيير بورديو
التلفزيون و
آليات التلاعب بالعقول
***
محاولة للفهم
***
هكذا تكلم بورديو

أثار رحيل عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي الكبير بيير بورديو في الثالث والعشرين من شهر يناير 2002 ردود أفعال كثيرة ليس في فرنسا فقط ولكن في جميع
أنحاء العالم
في عددها رقم 14 (مارس/إبريل 2002) كتبت مجلة اليسار الجديد
بموت بيير بورديو فقد العالم أكثر علماء الاجتماع شهرة، كما فقد اليسار الأوروبي أكثر الأصوات المؤثرة على حركته والمعبرة عنه خلال العقود الأخيرة كان بورديو دائماً منتمياً إلى اليسار، منذ انخراطه العملي بجانب التزامه الفكري في سنوات الخمسينيات والستينيات وحتى تحوله الراديكالي في أوائل التسعينيات عندما ركز بشكل رئيس على نقد الليبرالية الجديدة ونتائجها الكارثية على الإنسانية. كان العمل البحثي الكبير الذي أشرف عليه بورديو والذي حمل عنوان »بؤس العالم« تعبيراً عن هذا التحول الراديكالي. ربما يكون بورديو هو آخر المفكرين الكبار الذين تركوا بصماتهم الفكرية وأثّروا بشكل عملي على الحركات الاجتماعية والسياسية التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين. كذلك فإن بورديو يعتبر أحد أهم المنظرين الذين تُعَدُّ أعمالهم أدوات للنضال الفكري والنظري فيما يعرف الآن بحركة العولمة البديلة (التي كانت تعرف من قبل باسم حركة مناهضة العولمة). لم يكتف بورديو بإنتاجه الفكري الغزير والمتميز، لكنه جسد الأفكار والمبادئ التي روج لها في أعماله الفكرية إلى ممارسات عملية من خلال مشاركته الشخصية في المظاهرات والحركات الاجتماعية والسياسية مباشرة. لم تشهد اوروبا منذ رحيل جان بول سارتر وبرتراند رسل وميشيل فوكو مفكرين من هذا الوزن الكبير ممن جمعوا بين الإنتاج الفكري المتميز والممارسة النضالية العملية التي تدافع عن القضايا والمبادئ التي دعوا إليها. لقد كان بيير بورديو بلا شك نموذجاً مثالياً على هذا النوع من الشخصيات الإستثنائية النادرة. قدّم بورديو دعماً فكرياً كبيراً لحركة الإضرابات الكبرى التي شهدتها فرنسا في نوفمبر من عام 1995 ضد سياسات حكومة جوبيه التي أسفرت عن سحب الحكومة للقرارات الاقتصادية التي كانت تستهدف مزيداً من الضغط على الطبقات والشرائح الاجتماعية من العمال والموظفين وفئات الطبقة الوسطى بشكل عام. بعد نجاح حركة الإضرابات في إلغاء القرارات وإستقالة حكومة جوبيه، طور بورديو من رؤيته لهذا التزاوج بين دور الفكر الملتزم بقضايا الإنسان وبين الممارسة النقدية في مواجهة الموجة الصاعدة للّيبرالية الجديدة فأنشأ شبكة من الجمعيات والمنظمات الاجتماعية والثقافية التي احتلت مواقع قوية على خارطة العمل السياسي / الاجتماعي والفكري في المجتمع الفرنسي
كذلك فإن بورديو كان المرجع النظري وأحد المحركين الرئيسين لما عرف بعد ذلك »بيسار اليسار والذي تمثل في مئات من التنظيمات والجمعيات التي تشكل المنتديات الاجتماعية في أوروبا والعالم. في السنوات الأخيرة من التسعينيات كرس بورديو اهتماماً كبيراً لنقد الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام والميديا الجديدة في فرنسا وشن نقداً حاداً على فساد وسائل الإعلام الفرنسية وتبعية المثفقين الفرنسيين –كلاب الحراسة الجدد- لوسائل الإعلام من صحافة وإذاعات وبشكل خاص الدور الخطير الذي يلعبه التلفزيون في تكريس الأوضاع والمصالح السائدة وفي التفريغ السياسي والتلاعب بعقول المستهلكين من المشاهدين والذي يقدم تحليلاً لبنيته وآلياته في
هذا الكتاب الذي نقدمه للقارئ العربي
بدون تعليق
***
المثقف المناضل
ليس جدياً أن تفكر في السياسة دون أن تتحلى بتفكير سياسي«، هكذا يوجز بورديو طبيعة الرؤية التي يجب أن يتحلَّى بها من يريد أن يفهم ما الذي يحدث في هذا
العالم. لا يمكن فهم ظاهرة ما دون أن نحلل بنية هذه الظاهرة والآليات التي تحكمها وتعمل وفقاً لها. يعتقد بورديو أن العلوم الاجتماعية والممارسة النضالية يمكن أن يشكلا وجهين للعمل نفسه إن تحليلَ الواقعِ الاجتماعي ونقدَه يسمح بالإسهام في تغييره. ربما يتبادر إلى الذهن مفهوم جرامشي عن المثقف العضوي، لكن ما يدعو إليه بورديو يتجاوز مفهوم جرامشي وإن كان لا يتعارض معه. المعرفة الملتزمة عند بورديو تذهب بعيداً في إضفاء المسؤلية المباشرة على المفكر أو المثقف فيما يمارسه وينتجه من عمل علمي أو فكري. إن النتائج التي يمكن أن تنتج عن بعض الأعمال الفكرية أو الأبحاث العلمية يمكن أن تصل إلى تجريم من يقوم بها إذا لم ينبّه إلى نتائجها السلبية والخطيرة على الإنسانية، المثال المعبر جيداً عن ذلك هو ما يحدث في مجال الأبحاث البيولوجية. إن عالم البيولوجيا الذي يعمل في بحوث تهيمن عليها مصالح السوق والشركات المتعددة الجنسيات والتي يمكن أن يكون لها نتائج اجتماعية خطيرة يصبح شريكاً في جريمة ضد الإنسانية. التأمل المنطقي يمكن أن يؤدي إلى سؤال بسيط هو: لماذا تظل هذه المعرفة سريّة وتخضع لإجراءات عالية من التحكم والسيطرة؟ لماذا لا تصبحُ معرفةً جمعيّةً تشارك فيها الإنسانية جمعاء؟ يربط بورديو بين سياسة الليبرالية الجديدة وبين زيادة الفساد ومعدل الجريمة، بين سياسة الليبرالية الجديدة وبين ما يطلق عليه دوركهايم »الخلل أو الفوضى والانحراف عن النظام الطبيعي. لكن ما الذي يمكن عمله تجاه الأخطار التي تفرضها سياسات الليبرالية الجديدة والتي تهدد مستقبل العالم كله؟ يدعو بورديو بشكل خاص إلى خلق أدوات يمكنها أن تقف ضد التأثيرات الرمزية التي يمارسها الخبراء الذين يعملون في المؤسسات الدولية ولدى الشركات المتعددة الجنسيات. مثلاً، يكفي قراءة تقرير منظمة التجارة العالمية الخاص بالخدمات حتى نعرف أي سياسات للتعليم تلك التى ستفرض علينا خلال السنوات القادمة
إن وزارات التعليم لن تفعل شيئاً غير تطبيق التعليمات التي تم إعدادها من قبل خبراء قانونيين، وعلماء اجتماع وخبراء في الاقتصاد، والتي سيتم نشرها بمجرد الإنتهاء من وضع اللمسات القانونية لها. يدعو بورديو إلى تشجيع شروط إنشاء وإقامة الهيئات والجمعيات التي تساهم في تحبيذ الإنتاج الجماعي للاكتشافات والاختراعات والتي تعمل على انجاح ذلك ضمن مشروع سياسي. إن الجمعيات والهيئات التي لعبت دوراً في إحداث تغيرات عميقة في تاريخ الإنسانية كانت تتكون من أناس عاديين لم ينتظروا تعليمات من أحد ليقوموا بمبادراتهم. الجمعية التأسيسية التي سبقت الثورة الفرنسية في عام 1789 وجمعية فلادلفيا في أمريكا كانتا تتكونان من أناس عاديين يساندهم خبراء قانونيون ولديهم بعض الأفكار التي وجدوها لدى مونتسيكيو وهم الذين أنشؤُوا هيئات ديموقراطية بعد ذلك. يعتقد بورديو في وجود فرصة معقولة للنجاح ومؤشر ذلك تلك الحركات المتزايدة من المظاهرات والاحتجاجات، تلك الأفكار التي تموج بها الحركات الاجتماعية والسياسية التي يشهدها العالم. لقد تأكدت رؤية بورديو بعد ذلك في كل المناسبات التي تجذّر الصعود المتزايد لحركات مناهضة هيمنة سياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، تلك الحركات التي استكملت إرهاصاتها وتخمرها التنظيمي والفكري خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم لتظهر بعد ذلك وتفرض نفسها بقوة على خارطة العالم السياسية والاجتماعية كما شهدناها في سياتل وواشنطن وصولاً إلى الفوروم الاجتماعي العالمي الأول في بورت أليجر في يناير 2001 والفورم الثاني في فبراير 2002. لم يكن إنعقاد الفوروم الاجتماعي الأول في فلورنسا 2002، ثم الفوروم الاجتماعي الثاني في باريس 2003 إلا تأكيداً على أن عولمة بديلة تتجه نحو استكمال أدواتها الفكرية والتنظيمية في مواجهة العولمة التي تقودها الولايات المتحدة عبر المؤسسات المالية الدولية والاتفاقيات الثنائية من جانب، ومن خلال استخدام القوة المسلحة بل والغزو والاحتلال العسكري كما حدث في منطقتنا العربية من جانب آخر. لقد تنبه بورديو في وقت مبكر إلى ضرورة خلق أشكال جديدة للحركة ونماذج فكرية وتنظيمية غير تقليدية حتى يمكن مواجهة المرحلة الجديدة التي وصلت إليها الرأسمالية العالمية في طبعتها النيوليبرالية والتي عرفت باسم العولمة. لم تعد الأشكال القديمة للنضال الاجتماعي والسياسي قادرة وحدها على مواجهة التوحش الإعلامي والمالي الناتج عن تزاوج التكنولوجيا الجديدة وعالم المال. ربما تفيد هذه الرؤية التي قدمها بورديو مبكراً في أن تجد القوى السياسية والاجتماعية في العالم العربي اتجاهات جديدة للخروج من مأزقها الفكري والتنظيمي الراهن، ذلك أن أحد أهم أسباب حالة الضعف بل والعجز الذي تتميز به أوضاع الحركات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي هو فقدان القدرة على تجاوز التراث الفكري والتنظيمي الحركي لتجاربها السابقة من ناحية، ومن ناحية أخرى حالة اللاحسم والتردد في خلق الأشكال والأدوات الفكرية والتنظيمية الجديدة التي تتواءم مع المتغيرات والأحداث التي تشهدها المجتمعات العربية منذ أكثر من عقدين. الأحزاب السياسية الكاريكاتورية الرسمية وكذلك التنظيمات السياسية الحلقية الأمبيبية لم تعد بقادرة على مسايرة وقيادة التغيرات الاجتماعية والسياسية اللازمة للخروج بالمجتمعات العربية من حالة التخلف الراهن والتوجه نحو معادلة جديدة للتخلص من نظم الاستبداد والقمع والفساد السياسي والاجتماعي السائدة في البلدان العربية، وإطلاق الطاقات الحية في هذه المجتمعات لبناء مستقبل إنساني أفضل للأجيال القادمة. إن الوقت لم يفت بعد لأننا لا زلنا في البداية وأن الكارثة المحدقة بالعالم ما تزال في بدايتها. ويعتقد بورديو إن حركة اجتماعية فعالة على المستوى الأوروبي (يمكن أن تكون نموذجاً لمناطق أخرى من العالم) يجب أن تضم ثلاث مكونات: النقابات، الحركة الاجتماعية والباحثين، بشرط أن ينخرط الجميع داخل هذه الحركة. ويطالب بورديو الحركات الاجتماعية بأن تلجأ إلى الأعمال الرمزية ذات الكفاءة التي تعتمد على الالتزام الشخصي والمادي للمشاركين فيها. بل يمكن لهذه الحركات أن تقوم ببعض الأعمال متحملةً بعض المخاطر مثل الاعتصامات واحتلال بعض المواقع الرمزية الخ
*).
***
بورديو والسياسة
يقول باتريك شامبان وهو من أقرب الباحثين الذين عملوا مع بورديو، إن الذين لم يعرفوا بورديو قبل عام 1995، سيكون لديهم انطباع غير صحيح عن علاقته بالسياسة. الصورة التي صنعتها الصحافة وانتشرت بشكل واسع منذ عدة سنوات، سواء كانت ايجابية- انخراط بورديو في الحياة السياسية - أم كانت سلبية – تحول بورديو إلى الراديكالية السياسية حتى يكون موضع اهتمام - هي صورة زائفة في كلتا الحالتين. إن علاقة بورديو بالسياسة تعود إلى فترة حرب الجزائر. لم يعتبر بورديو مطلقاً أن علم الاجتماع هو مجرد مجال تخصص أكاديمي، إنما كان مثله مثل دوركهايم يرى أن العلوم الاجتماعية لا تستحق مجرد ساعة من الاهتمام إذا
لم تعدْ بشكل واسع إلى المجتمع لكي تكشف آليات الهيمنة السائدة فيه. في مقدمة كتاب إعادة الإنتاج يشرح بورديو أن علم الاجتماع كان سياسياً أكثر منه علمياً لأنه يمكّن من رؤية ما يخفيه العالم الاجتماعي. يقول بورديو من المفهوم أن علم الاجتماع كان مرتبطاً جزئياً بالقوى التاريخية التي كانت تحدد طبيعة علاقات القوى التي يجب الكشف عنها في كل حقبة من حقب التاريخ. المشكلة السياسية الخاصة كانت تلك المتعلقة بنشر الأعمال العلمية المتقدمة التي تسمح بفهم وتقدير أكثر ديموقراطية بقدر المستطاع للنتائج التي يتوصل إليها علم الاجتماع (في مقابل البحوث العملية التي تتم حسب طلب الهيئات والمؤسسسات الحاكمة التي تستخدم العلوم الاجتماعية من أجل أن تتحكم بشكل أفضل وتهيمن بفاعلية على الخاضعين لهيمنتها . إن صدور كتاب »بؤس العالم« قبل الإنتخابات الفرنسية عام 1993 لم يكن مجرد مصادفة: عمل جيد البناء نظرياً، يرتكز على سنوات من العمل البحثي الذي شارك فيه عشرات من الباحثين الذين عملوا في تعاون وثيق مع بورديو. هذا العمل الكبير موجه أساساً إلى الكشف عن المعاناة الاجتماعية المتزايدة الناتجة عن سياسة الليبرالية الجديدة التي لم يكن المسؤلين السياسيين بكل انتماءاتهم قادرين على إدراكها بسبب من صراعاتهم الداخلية ولهاثهم وراء أرقام البورصة والاستطلاعات. هذا الكتاب الذي لاقى استقبالاً إعلامياً واسعاً جعل من بورديو شخصية عامة ومؤثرة إلى حد كبير. ذهب بورديو خطوة أكثر إلى الأمام بإنشائه دار نشر قامت بنشر سلسلة من الكتب من القطع الصغير ورخيصة الثمن (من بينها هذا الكتاب عن التلفزيون) موضوعاتها تدور حول مسائل سياسية ساخنة وتهدف إلى دفع الأعمال التي تقوم بها العلوم الاجتماعية إلى ساحة النضال السياسي. الكتاب الأول من هذه السلسلة هو هذا الكتاب عن التلفزيون الذي يحلل فيه بورديو حالة الميديا ويسعى إلى إظهار تاثيرات شاشة التلفزيون وما تنتجه من برامج وصور بعيدة عن أي موضوعية وتعكس رؤية للعالم غير محايدة سياسياً. وبسبب النجاح الجماهيري الهائل الذي حققه هذا الكتاب، تعرّض بورديو لهجوم حاد من الحلقات الصغيرة لكهنة الميديا في الصحف وقنوات التلفزيون . لقد كان بورديو حاضراً بشكل دائم في كل النقاشات السياسية الكبرى، محاولاً في كل مرة أن يجعل العالِمَ الاجتماعي منخرطاً في هذه القضايا حتى يمكن فهمها بشكل أفضل. في مواجهة المقولة الشهيرة »السياسة الواقعية« التي ظلت سائدة عبر العصور عمل بورديو على أن يطور الأفكار التي يعتبرها بمنزلة أدوات وأسلحة في مواجهة الهجوم النيوليبرالي مطلقاً مقولة مضادة للمقولة السابقة أسماها »سياسة العقل الواقعية
***
شاشة التلفزيون اليوم مرآة نرجس ومكانا لإستعراض الذات
***
بورديو الأب الروحي لحركات العولمة البديلة
ربما يمكن تشبيه الدور الذي يمثله بورديو بالنسبة للحركات المناهضة للعولمة النيوليبرالية أو حركات العولمة البديلة كما تُعرّف حالياً بالدور الذي لعبه هربرت ماركوز وشي جيفارا بالنسبة لحركات الشباب التي هزت العالم عام 1968. إن تحليلات بورديو النظرية عن الليبرالية الجديدة وما تمثله من خطر، وكشفه للبنى والآليات التي تحكمها قد لعبت بدون شك دوراً اساسياً في بلورة الأفكار والشعارات التي تحملها هذه الحركات. في مقال نشره في اللوموند ديبلوماتيك عدد مارس 98
يحلل بورديو الدور الذي تقوم به الهيئات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية في فرض برامج اقتصادية تتمثل في خفض تكاليف الأيدي العاملة، خفض الإنفاق العام وما تطلق عليه مرونة العمل وهو ما يجعله يقول بأن الليبرالية الجديدة تتحول بهذا الشكل إلى برنامج سياسي يستند إلى نظرية اقتصادية. هذه النظرية عبارة عن لعبة من ألعاب الخيال الرياضي المستند في الأصل على درجة عالية من التجريد. يكفي بهذا الصدد التفكير في كيفية رؤية هذه النظرية إلى التعليم الذي لم تعتبره على الإطلاق إلا سلعة مثل بقية السلع تنظر إليه من منظور اقتصادي بحت مبني على التنافس وهو ما يناهض المنطق الاجتماعي المستند على قاعدة العدالة. النظرية النيوليبرالية كما يحللها بورديو نظرية مفرغة من البعد الاجتماعي ومفرغة من البعد التاريخي. الخطاب السائد في سياسات الليبرالية الجديدة هو خطاب يشبه ذلك السائد في مصحات الأمراض العقلية، إنه »خطاب قوي« وهو ليس قوياً إلا لأنه يهيمن على كل القوى في عالم تحكمه علاقات قوى تفرض عليه أن يكون بالشكل الذي هو عليه. إن هذه النظرية تستند إلى برامج تعمل على التدمير المنهجي لكل ما هو جماعي. يستمد البرنامج الليبرالي قوته الاجتماعية من القوة السياسية / الاقتصادية لهؤلاء الذين يعبر عن مصالحهم من مساهمين في البورصات، والمضاربين والعاملين في سوق المال، ورجال الصناعة، ورجال السياسة المحافظين أو الاشتراكيين الديموقراطيين الذين تحولوا إلى تبني مبدأ دعه يعمل دعه يمر مع فارق أنهم من كبار الموظفين المتشدقين بالشعارات السياسية المفرغة عملياً من أي مضمون. إن عولمة سوق المال مصحوبة بالتقدم الكبير في تكنولوجيا المعلومات توفر حريةً وسهولةَ حركةٍ غير مسبوقة لرأس المال وبالتالي للمستثمرين الذين يسعون إلى الربحية قصيرة الأجل لاستثماراتهم. هكذا تتربع على العرش بلا منازع، المرونة في العمل، عقود العمل قصيرة الأجل، التسريحات الجماعية للعمال والموظفين، وفرض منطق المنافسة المطلقة بين فروع المؤسسة الواحدة وبين أفراد المؤسسة الواحدة وسيادة الطابع الفردي للأجور، الخ. كل هذه المعاناة الهائلة التي ينتجها مثل هذا النظام السياسي / الاقتصادي هل ستؤدي في يوم ما إلى حركة قادرة على وضع نهاية لهذا السباق نحو الهاوية؟ في الواقع نحن هنا أمام تناقض هائل: على الرغم من هيمنة هذا الغائب الحاضر المسمَّى بالسوق (وهو أيضاً مكان تبادل المصالح) وعلى الرغم من أن أي محاولة لمواجهة ذلك تنتهي بالتراجع لصالح آليات السوق، إلا أن نشاط كل الفئات العاملة في المجال الاجتماعي، وكذلك كل أشكال التضامن والتكافل الاجتماعي، عائلي أو غيره لن تنهار وتسقط في الفوضي على الرغم من الحجم المتزايد للسكان الذين يعيشون في ظروف العوز والهشاشة. إن العبور نحو »التحررية« يكتمل بطريقة غير محسوسة وربما غير مدركة مثل الفالج الذي يشق القارات وتظهر تأثيراته الرهيبة على المدى الطويل. إن ما يسميه بورديو بالمثقف الجمعي هو عبارة عن كيان يأخذ شكل جمعية أو منظمة تضم متخصصين في مجالات متعددة مثل الاقتصاد، وعلماء الاجتماع، وعلماء الإثتنولوجيا والمؤرخين الخ.، الذين يضعون كفاءاتهم العلمية في خدمة الحركات المناهضة للعولمة النيوليبرالية لتكون بمثابة أسلحة فكرية وعلمية تسمح لهم بفهم مشاكل العالم الذي نعيش فيه بكل ما تتميز به من تعقيدات سواء كان ذلك في افغانستان أو في فلسطين أو في العراق. يقدم بورديو من خلال مسيرته الفكرية والنضالية أدوات تعتبر بمثابة الأسلحة في الصراع الذي نشهده اليوم بين مصالح متداخلة شديدة التعقيد. العالم الاجتماعي عند بورديو حاضر في كل عمل اقتصادي، والمجال الاجتماعي يعتبر مجالاً للقوة أو للنضال تميزه طبيعة العلاقات والتفاعلات القائمة بين المشاركين فيه. في هذا المجال يحتل الأفراد مواقع مختلفة تتحدد عبر الأشكال المختلفة لرأس المال الذي راكموه خلال حياتهم. إن ذلك يؤدي إلى نشوء علاقات قوى وإلى علاقات للسلطة تأخذ شكل الهيمنة (العلاقات بين المهيمنين / الخاضعين للهيمنة
***

محاولة للفهم

خلال العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين ظهرت مصطلحات عديدة كثر استخدامها من قبل مدارس علم الاجتماع المختلفة مستهدفة تحديد أو تحليل طبيعة بنى المجتمعات المختلفة في الثلث الأخير من القرن المنصرم. من بين هذه المصطلحات التي انتشرت كثيراً نجد مصطلحات مثل

مجتمع الاستهلاك Société de la consommation،

المجتمع ما بعد الصناعي La Société post-industerielle

المجتمع ما بعد الحديث Société poste-moderne

وصولاً إلى
مجتمع المعلومات
Société de l’information
ومجتمع المعرفة
Société de la connaissance
ماذا تعني كل هذه المصطلحات؟ ولماذا تثير هذا النوع من الفضول الفكري لدى المثقفين بشكل عام ولدى الباحثين والمهتمين بالعلوم الاجتماعية بشكل خاص؟ بداية، لا يهدف هذا التقديم إلى تناول هذه الأسئلة أو معالجتها، لكن يمكن القول إنه يحاول طرحها أو إعادة طرحها بشكل آخر، أي في علاقتها بموضوع هذا الكتاب. هذا الكتاب هام وخطير إذا نظرنا إليه من هذه الزاوية، لكن لماذا هذا الوصف بالأهمية والخطورة؟ هل يندرج ذلك في خانة تحبيذ القارئ وجذب اهتمامه؟ أم أن ثمة أساساً موضوعياً يستند إليه هذا الوصف؟ الإجابة تكمن في أن هذا الكتاب بجانب الموضوع المباشر الذي يتناوله وهو بنية »وسائل الإعلام الحديثة« وآلياتُ عملها، وبالتحديد هذا الجهاز الهام والخطير »التلفزيون«، إلا أنه يفتح الطريق بشكل غير مباشر للتأمل والتفكير فيما هو أبعد من ذلك وتحديداً طبيعة المجتمع الذي نعيش فيه في الوقت الراهن. ولتقريب هذه الفكرة إلى ذهن القارئ فإنني أدعوه إلى إعادة التأمل في الدور الذي لعبته ولا زالت تلعبه وسائل الإعلام العالمية والعربية على حد سواء وخصوصاً دور القنوات الفضائية العابرة للحدود الجغرافية فيما يتعلق بالأحداث التي تشهدها المنطقة العربية في فلسطين والعراق. القنوات التلفزيونية وبشكل خاص الفضائية منها لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية أو للتثقيف (حتى وإن كانت برامجها تتضمن ذلك) إنما هي كما يؤكد على ذلك بورديو قد أصبحت أدوات الضبط والتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات الراهنة، أو هي وفقاً للمصطلح الذي يستخدمه بيير بورديو عبارة عن أدوات »للعنف الرمزي« الذي تمارسه الطبقات الاجتماعية التي تهيمن على وتسيّر هذه الأدوات. لقد أثار هذا الكتاب منذ صدوره في شهر ديسمبر 1996 ولا يزال الكثير من الضجة والتعليقات مابين الترحيب والحماس الشديدين وبين الهجوم الحاد على الكتاب وعلى مؤلفه. يكفي أن نعلم أنه قد صدرت ثماني طبعات منه خلال الشهور الثلاثة الأولى من إصداره (هذه الترجمة هي ترجمة للطبعة الثامنة الصادرة في شهر مارس 1997.). حتى نفهم لماذا كل هذا الجدل الذي أثير حول هذا الكتاب ربما يكون من المفيد أن نحاول بقدر الإمكان أن نقرأ هذا الكتاب وفقاً لمستويين. أولاً مستوى الموضوع المباشر الذي يعالجه ويحلله هذا الكتاب وهو الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة وفي القلب منها التلفزيون من »تلاعب وتأثير« في عقول الناس. كيف تقوم هذه الوسائل بتشكيل الأفكار والوعي العام؟ كيف تعمل هذه الآليات في توجيه الوعي والرأي العام وتشكيلهما؟ من يقوم بالتحكم في هذه الآليات وبإدارتها؟
هل هم الصحفيون الذين يعملون في هذه الأجهزة أم أنه »النظام« أو »البنية أي
STRUCTURE- SYSTEME
الذي يعملون في إطاره؟ والعديد من الأسئلة الأخرى التي يمكن أن تطرأ على ذهن القارئ فيما يتعلق بالمعالجة المباشرة كما يقدمها الكتاب. لكن ثمة مستوى آخر من التفكير والتأمل يمكن أن نصل إليه إذا ما تم التعمق والذهاب إلى ما هو أبعد من الموضوع المباشر، إنه المستوى الذي يتعلق بطبيعة المجتمع ككل. إن هذه الآلة المركبة أي المجتمع تخضع لأدوات ضبط وتحكّم تهدف إلى توجيهها نحو استراتيجيات محددة، ودور أدوات الضبط والتحكم هذه هو إحكام السيطرة علىالمحاور والتروس والحركات المختلفة التي تتم داخل هذه الآلة أي المجتمع. إننا نستخدم كلمة آلة هنا بالمعنى العلمي بطبيعة الحال وليس لمجرد المجاز، ذلك أن كل آلة هي عبارة عن »نظام« تم تصميمه وضبطه لأداء وظيفة أو وظائفَ معينةٍ، بهذا المعنى نتحدث عن »النظام الاجتماعي« أو »النظام السياسي« الخ. لكن من الذي يقبع وراء ذلك كله؟ إنهم ليسوا أفراداً معينين (على الرغم من الدور المباشر وغير المباشر الذي يقوم به الأفراد في ذلك) لكنه »منطق النظام« ذاته، ذلك المنطق الذي شيد على أساس تفضيلِ مصالحِ فئاتٍ وشرائحَ اجتماعيةٍ معينةٍ وهيمنتها (يمكن تحديدها بدءا من المعطيات المحددة للتركيب الاجتماعي وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد في كل مجتمع) ضد مصالح فئات وشرائح اجتماعية أخرى (في جميع الأحوال هي الغالبية الساحقة من أفراد المجتمع). إذا ما استخدمنا عبارات أخرى للتعبير عما يسمى »منطق النظام« يمكننا بشيء من التقريب الحديث عن »الايديولوجيا السائدة«. لكن الموضوع ليس بهذه البساطة.
إن الموضوع الذي يعالجه بيير بورديو في هذا الكتاب يتعلق في مستواه المباشر بتحليل بنية وآليات أحد منتجات هذه التكنولوجيا الحديثة التي تعرف بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، لكن الموضوع غير المباشر (لكنه رئيس وأساس!) هو علاقة الإيديولوجيا بهذه التكنولوجيا. إذا كان من الممكن اعتبار أن العلم محايدٌ، فإن استخدامات العلم وتطبيقاتِهِ أي التكنولوجيا ليست محايدة. فيما يتعلق بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات فإن التوظيف والمضمون الإيديولوجي لهذه التكنولوجيا يجد أوضح مثال له في الدور الذي يلعبه التلفزيون. لا يقتصر الدور الخطير الذي يلعبه التلفزيون على التأثير المباشر على المشاهدين ولكن هذا التأثير يمتد كما يوضح بورديو في هذا الكتاب إلى مجالات الإنتاج الثقافي الأخرى وهو ما ينبّه إلى خطورته بشكل خاص. لقد كثر الحديث عن »نهاية الايديولوجيات« و»نهاية التاريخ«، كما تم الترويج لنظرية صموئيل هنتنجتون المعروفة »بصدام الحضارات« الخ. ولكن الشيء المثير للدهشة والتعجب أن هذه المقولات التي روِّج لها كثيراً في أوساط المثقفين ووسائل الإعلام خصوصاً بعد انهيار سور برلين والتحولات السريعة والعنيفة التي شهدتها دول شرق أوروبا، مروراً بحرب الخليج الأولى ثم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من حرب واحتلال لأفغانستان والعراق، هي في حد ذاتها تعبير عن أيديولوجيا تدّعي السيادة والانتصار على الأيديولوجيات الأخرى!. أيديولوجيا تعبّر عن نزعات عنصرية وفاشية جديدة تمثل تهديداً حقيقياً للإنجازات الرائعة التي حققها الفكر الإنساني عبر مسيرته الطويلة.
مما لا شك فيه أن المواجهات الأيديولوجية التي كانت سائدة طوال فترة الحرب الباردة قد انتهت بصورتها القديمة، أي المواجهة وجهاً لوجه وسيادة الخطاب الأيديولوجي المباشر. لكن التحول الجديد الذي طرأ خلال السنوات العشر الأخيرة من القرن المنصرم وحتى الآن هو انفراد ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الناعمة بموقع الصدارة في وسائل الإعلام المختلفة. »الأيديولوجيا الناعمة تتمثل فى تلك الجرعات اليومية بل اللحظية التى تبثها وسائل الاعلام »soft ideology«
الحديثة وكذلك الوسائط المتعددة
Multimedia وانتشار شبكة الانترنت على المستوى العالمي
.
هذه الجرعات تتغلغل وتنساب إلى عقول المشاهدين والقراء والمستمعين ومستخدمي الوسائط المتعددة والانترنت الخ. بهدوء وبلا ضجيج على عكس ما كان يتم في السابق. إن المجال مفتوح الآن لعمل دراسات على التوظيف والمضمون الأيديولوجي لكل هذه الوسائل والأدوات وهو ما يقدم له بورديو نموذجاً منهجياً في هذا الكتاب. إن طريقة التحليل التي يقدمها بورديو هنا يمكن تطبيقها على مجالات أخرى.

***

من يملك المعلومات؟
من يملكْ يسيطرْ ويتحكمْ. هكذا كان الأمر عبر المراحل المختلفة التي مرت بها المجتمعات الإنسانية. السادة والعبيد، السادة يملكون كل شيء بما في ذلك العبيد وبالتالي فلقد كانوا يسيطرون على كلِّ شيء يتحكمون فيه. الشيء نفسه نلاحظه في الأشكال المختلفة التي طرأت على المجتمعات بعد ذلك وحتى اليوم. الصراع كان دائماً بين طرفين بصرف النظر عن طبيعة المجتمع الذي يدور فيه هذا الصراع، من ناحية هناك من يملكون وسائل الإنتاج وأدوات السيطرة والتحكم، ومن ناحية أخرى هناك دائماً أولئك الذين يخضعون لشروط هذه السيطرة ويسعون للتحرر منها. حدث هذا بين الإقطاعيين ممن كانوا يملكون الأرض ومن عليها من البشر وبين الفلاحين الذين خاضوا نضالات وقاموا بانتفاضات وثورات عديدة من أجل التحرر. الظاهرة نفسها يمكن ملاحظتها في المجتمعات الرأسمالية، ظلت المواجهة الاجتماعية والسياسية من حيث الجوهر هي نفسها أي الصراع بين من يملكون ويسيطرون (في هذه الحالة ملاك الأراضي والمصانع والورش الخ) وبين من يعيشون في ظل شروط ومحدِّدات هذه الهيمنة والسيطرة (العاملين من العمال والفلاحين أساساً). ولعل من الهام الإشارة هنا إلى أن الأمر لم يكن يختلف كثيراً من حيث المضمون في المجتمعات التي اتبعت طرقاً مختلفة للتنمية وأقصد هنا المجتمعات التي حدثت فيها تغيرات في طبيعة النظام السياسي بعد ثورات وحركات اجتماعية عنيفة وهي المجتمعات التي كانت تعرف »بالاشتراكية«. ففي هذه المجتمعات ظلت معادلة من يملك يحكم ويسيطر صحيحة حيث انتقلت ملكية وسائل الإنتاج وأدوات التحكم والسيطرة إلى الدولة التي كان يسيرها ويديرها شرائح اجتماعية بيروقراطية حلت محل »الملاك والمسيطرين« القدماء (ملكية الدولة والدولة هي نحن!). ربما تساعد هذه الطريقة في النظر إلى الامور إلى إعادة النظر في تلك التحليلات الدوجمائية التي لا يزال بعضها مستمراً حتى الآن والتي تحاول عبثاً أن تدعي وجود اختلاف جوهري بين مضمون التحكم والسيطرة في كلا النظامين الاشتراكي على الطريقة السوفيتية والأوروبية الشرقية وبين النظام الرأسمالي. نصل الآن إلى الاستنتاج الذي يؤدي إليه التحليل السابق. إذا كان من يملك يحكم ويسيطر ويفرض رؤيته للعالم على الآخرين، وإذا كنا كما تتلاقى في ذلك غالبية
تيارات علم الاجتماع المعاصر قد دخلنا منذ حوالي عقدين من الزمان في شكلٍ أو مرحلة جديدة من مراحل تطور المجتمع تلك التي يطلق عليها اسم »مجتمع المعلومات«، السؤال الذي يواجهنا على الفور هو من يملك المعلومات؟. قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال نود التأكيد على أننا نستخدم كلمة »المعلومات« هنا بالمعنى الشامل للمصطلح، أي تعبيراً عن من يملك المعرفة والأسس العلمية والتكنولوجية، من ينتج ويتحكم في أدوات إنتاج ونشر هذه المعلومات بصورها المختلفة.، وليس بالمعنى القاموسي المحدود للكلمة. نشدد على أن أهمية ذلك تعود إلى أن من ينتج ويسيطر على هذه المعلومات ووسائل نشرها في المجتمعات المعاصرة هو الذي يحكم ويسيطر ويفرض رؤيته على الآخرين. سيجد القارئ من خلال الأمثلة المحددة التي يتناولها بالتحليل بيير بورديو في هذا الكتاب الاجابة عن هذا السؤال.

* * *

في تحقيق أعدته كل من سالي أثيلستون ومارتا وينجر بعنوان »من يملك المعلومات عرضتا فيه قائمة بأسماء الشركات والأفراد الذين يملكون ويسيطرون على أكبر الشبكات التلفزيونية في الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك محطات الراديو وكبريات الصحف والمجلات العالمية (مثل: بوستن هيرالد، شيكاغو تريبيون، لوس أنجليس تايم، نيويورك تايمز، يو. إس. توداي، وول ستريت جورنال، واشنطن بوست، تايم ونيوز ويك الخ.) ويذكر هذا التحقيق الذي يمكن للقارئ المهتم أن يطلع فيه على مزيد من التفاصيل أسماء شركات صناعية ومالية عالمية مثل كابيتال سيتيز، وجنرال إليكتريك، وكوكس إنتربرايز، الخ. بالاضافة إلى أسماء كبار المالكين والمساهمين من أمثال روبرت مردوخ، وارن بوفيت، ولورانس تيتش صاحب سلسلة فنادق لويس، وتد تيرنر (شبكة سي. ان. ان)، وأسرة اوشز-سلزبرجر، وأسرة هيرست، وأسرة جراهام، الخ. إن الصورة لا تختلف كثيراً على الجانب الآخر من الأطلنطي حيث نجد أسماء أسر وأفراد وشركات صناعية ومالية كبرى وراء شبكات التلفزيون والراديو وكبريات الصحف والمجلات التي تؤثر على الرأي العام وتشكله في البلدان الأوروبية (والتي أعطى بيير بورديو أمثلة عليها فيما يخص حالة فرنسا)، بل إننا نرى أسماء مثل روبرت مردوخ المتوج بإمبراطور أو ملك الميديا وراء ملكية كبريات الصحف الإنجليزية الواسعة الانتشار وكذلك شبكات التلفزيون وقنوات البث عبر الأقمار الصناعية، وربما يكون المثال الأكثر دلالة الذي يجسد مدى خطورة هذه الظاهرة هو مثال سيلفيو بيرليسكوني في إيطاليا. حتى تكتمل الصورة، ربما يتساءل القارئ وماذا عن العالم العربي؟ من الذي يملك ويهيمن على أجهزة الإعلام ويضع سياستها، وخصوصاً شبكات التلفزيون التي تشكل وتوجه الوعي والرأي العام في الفضاء العربي؟ أي قيم وأفكار ثقافية تروج لها هذه الأجهزة؟ وأخيراً، عن أي مصالح اقتصادية واجتماعية تعبر هذه الأجهزة والأدوات الإعلامية؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة التي قد تخطر على ذهن القارئ المهموم والمهتم بما يحدث في عالمنا العربي لا تستدعي كثيراً من البحث ذلك أن جميع شبكات التلفزيون والراديو وكذلك معظم الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية مملوكة أو تدار من جانب الدول والحكومات. ربما نجد تفسيراً لهذه الظاهرة في أن الدولة ذاتها في معظم هذه البلدان تحكمها أسر وعائلات مالكة، حيث تُحكم في غالبيتها من قبل شبكات عائلية واجتماعية تلتف حول رئيس الدولة. يكفي إلقاء نظرة على البرامج والمساحة المخصصة لأخبار ونشاطات ملوك ورؤساء الدول في النشرات الإخبارية التلفزيونية لنرى إلى أي درجة أصبحت هذه الظاهرة الامعقولة جداً عادية جداً بحكم العادة ومرور الزمن! أخيراً وحتى يكتمل هذا العرض تبقى ملاحظة خاصة بالعلاقة بين التكنولوجيا والأيديولوجيا في الفضاء العربي. مع التوسع السريع الذي حققه البث التلفزيوني المباشر عبر الأقمار الصناعية والتطور السريع الذي حققته تكنولوجيا الاتصالات دخلت الدول العربية هذا المجال سواء عن طريق شراء وإطلاق أقمار صناعية خاصة بها (عرب سات / نايل سات) أو عن طريق تأجير قنوات في أقمار صناعية مملوكة لأطراف آخرين. من الناحية الأيديولوجية فإن ملكية القنوات الفضائية العربية أي تلك التي تبث عبر الأقمار الصناعية ويتم استقبالها في جميع البلدان من خلال أجهزة الاستقبال الفضائية (الدش) التي انتشرت بدورها بسرعة فائقة ظلت تعكس نفس التركيب الخاص بملكية وسائل الإعلام المحلية داخل الدول العربية. القنوات الفضائية العربية إما مملوكة للدول كما هو الحال في الداخل بالنسبة للبث الوطني أو المحلي أو أنها مملوكة لتحالف وشراكة بين أفراد من أبناء الأسر المالكة أو من ذوي العلاقات الوثيقة معها. مثلاً القنوات الفضائية لشبكة

ART – MBC
يهيمن عليهما تحالف كل من الشيخ صالح والشيخ الوليد بن طلال والشيخ الوليد الإبراهيمي، وهناك قناة تلفزيونية أخرى أنشأها ويديرها
شقيق رئيس سابق لإحدى الدول العربية، كما أن قناة الجزيرة التي اكتسبت شهرة واسعة لأسباب عديدة لا مجال للدخول في تفاصيلها هنا، أنشاها أحد أمراء الأسرة الحاكمة الذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الخارجية في حكومة هذه الدولة، والمجال لا يسمح هنا بمزيد من الاستطراد حول مجموعات المستشارين والصحفيين ومقدمي البرامج بل وعن البرامج الحقيقية التي تقدم بشكل زائف والبرامج الزائفة التي تقدم بشكل حقيقي في كل هذه القنوات. يمكن للقارئ الذي تؤرقه مثل هذه القضايا أن يطبق المنهج وتقنيات البحث التي يستخدمها بورديو في هذا الكتاب على شبكات التلفزيون العربية وسيكتشف إلى أي حد سيصل إلى نتائج أكثر من مذهلة. والأمثلة لا تنتهي.
إن العرض السابق يحتمل من دون شك مخاطر الوصول إلى الاستنتاجات النهائية من دون عرض تحليلي مفصل للمعطيات والآليات التي تسبق هذه النتائج، لكن ذلك يحتاج إلى دراسات عديدة حول هذا الموضوع تخرج عن نطاق هذا التقديم، لكن نأمل أن تستحث هذه المقدمة عدداً من الباحثين العرب كي يقوموا بمثل هذه الدراسات. تتميز شبكات تبادل المصالح بالتداخل والتعقيد. هناك المصالح المالية الهائلة للثروات البترولية المباشرة من ناحية، والاستثمارات البترودولارية في مختلف البلدان (عربية وغير عربية) من ناحية أخرى، ويكاد يكون من المستحيل فهم لماذا أصبحت المعلومات
وسائل الاتصالات الحديثة تعبيراً عن هذه المصالح دون الإجابة عن السؤال المركزي الخاص بملكية المعلومات ووسائل نقلها
* * *
خـاتمــة
في عام 1998، كانت حركة العاطلين عن العمل تزداد وتتسع في فرنسا. في المظاهرات التي عمّت معظم المدن الفرنسية يوم السبت 17 يناير 1998 اشترك مؤلف هذا الكتاب بيير بورديو في المظاهرة الكبرى التي سارت في باريس وضمت حوالي عشرين الف متظاهر من العاطلين والمتعاطفين مع مطالبهم. وربما تكون هذه الحركة الاجتماعية بمنزلة تعبير جيد للتحليل الذي يقدمه بورديو في هذا الكتاب. لقد لعبت وسائل الإعلام دوراً ملحوظاً في إبراز هذه الحركة التي فرضت نفسها على الرغم من محدودية عدد المشاركين فيها بالنسبة إلى مجموع العاطلين عن العمل الذي يتجاوز ثلاثة ملايين فرد. إن انحياز بورديو إلى جانب العاطلين والمستبعدين هو موقف عملي للنتائج التي توصل إليها في العمل الكبير الذي قدمه في كتاب »بؤس العالم«. إن التغيرات التي شهدتها المجتمعات الغربية خلال الثلاثين عاماً الماضية (أي منذ اندلاع حركة الإضرابات والاحتجاجات الكبرى في عام 1968) تتجسد الآن في تغيّر كيفي لطبيعة المجتمع. إن الأمر لم يعد يتعلق فقط كما كان الحال في السابق بالمواجهة بين من هم في قمة الهرم الاجتماعي ومن هم في قاعدته، لكن الأمر وصل الآن إلى حالة النضال بين من هم داخل النظام وبين أولئك الذين استبعدوا أو هم في طريقهم إلى الاستبعاد منه، لكن هذا موضوع يحتاج إلى بحث آخر
درويش الحلوجي
باريس

dimanche, décembre 04, 2005

Gaston Bachelard جاستون باشلار

جاستون باشلار
النار
التحليل النفسي لأحلام اليقظة
ترجمه عن الفرنسية وقدم له
درويش الحلوجي

ابستمولوجيا
نصوص مختارة
نظرية المعرفة
ترجمه عن الفرنسية وقدم له
درويش الحلوجي

ابستمولوجيا
نظرية المعرفة
المؤلف: جاستون باشلار
الناشر: دار المستقبل العربي
سنة النشر :1999
المقاس: 20×14 سم
عدد الصفحات: 272
نبذة
جاستون باشلار هو ذلك العصامي الذي كون وطور أفكاره بعيدا عن المؤسسات الرسمية التي ظلت تتجاهله لسنوات طويلة .. وهو ايضا الذي تبنته أعرق جامعة فرنسية جامعة السوربون بعد ذلك في خطوة تعتبر بالنسبة له انتصارا للفكر العلمي والعقلانية العلمية .. هذا الكتاب يحاول أن يعطي لوحة بانورامية لفكرجاستون باشلار كما سجله في العديد من أعماله .
ترجمة وتقديم : درويش الحلوجي ..

المؤرخون

ترجمة درويش الحلوجي

تصدر الترجمة العربية عن

المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2006